بورتريه

تقارير وأكاذيب في " 10 دواننغ ستريت"

تشيلكوت
تشيلكوت
استغرق إعداده سبع سنوات، وبلغ عدد كلماته 2.6 مليون كلمة، ووصلت كلفته إلى 10 ملايين جنيه إسترليني (13.5 مليون دولار أمريكي).

 يضعنا تقرير "لجنة تشيلكوت" أو ما تعرف رسميا بـ"تحقيق العراق" أمام الحقيقة الصادمة التي تقول أن أكاذيب الثنائي بلير- بوش قادت المنطقة إلى أكثر الحروب دموية والتي تسببت في ظهور أخطر تنظيم في السنوات العشر الماضية وهو "تنظيم الدولة" وفي خروج مارد الطائفية من القمقم أو الفانوس السحري.

وعادة ما تبدأ الحروب في عقول السياسيين، وينفذها الجنرالات على الأرض ليعود السياسيون لجني ثمارها، فيما تبدأ تقارير تقييم الوضع من عند الضحايا الذين لم يأخذ أحد رأيهم فيما يجري.

منذ الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق مدعومة من بريطانيا (توني بلير) في عام 2003، تفاوتت تقديرات الخسائر في الأرواح بسب الحرب من ربع مليون إلى 600 ألف قتيل، وأكثر من 5 ملايين لاجىء. فيما معاناة الأسر العراقية، كما هو موثق في إحصائيات الحرب، أكثر مرارة من أي شيء يمكن تحمله في أي زمن كان.

وشهدت بريطانيا قبل غزو العراق عام 2003 حملة رسمية للتحضير لتلك الحرب قادها رئيس الوزراء آنذاك توني بلير، حيث التزم في نيسان/ أبريل عام 2002 بإزالة ما سماه "أسلحة الدمار الشامل في العراق"، وشكل مع واشنطن تحالفا للتأثير على الرأي العام.

لكن حملته قوبلت برفض شعبي بريطاني وخرجت مسيرة مليونية في شباط/ فبراير عام 2003 في لندن لمعارضة الحرب، واعتبرت إحدى أكبر المظاهرات السلمية في التاريخ.

وبعد نحو ست سنوات على الحرب تأسست في حزيران/ يونيو عام 2009 من قبل رئيس وزراء بريطانيا جوردون براون لجنة للتحقيق في مشاركة بريطانيا بالحرب على العراق، على أن يغطي التحقيق الفترة الواقعة بين صيف عام 2001 وحتى نهاية تموز/ يوليو من عام 2009، بدءا من القرارات التي اتخذت قبل بدايتها مرورا باستراتيجية ما بعد الغزو والانسحاب النهائي للقوات البريطانية.

وتم اختيار أعضاء لجنة التحقيق من قبل براون وهي تتألف من السير جون تشيلكوت رئيسا وأطلق الإعلام اسمه على اللجنة باعتباره رئيسها. والسير لورانس فريدمان وهو مؤرخ عسكري وأستاذ الدراسات الحربية في جامعة الملك بلندن. والسير مارتن غيلبرت وهو مؤرخ أيد الحرب على العراق في العام 2004. والسير رودريك لين سفير سابق لدى روسيا والأمم المتحدة في جنيف، شغل سابقا منصب السكرتير الخاص لرئيس الوزراء جون ميجور. والبارونة أوشا بارشر عضو في اللجنة المشتركة لحقوق الإنسان، والرئيسة الحالية للجنة التعيينات القضائية.

ويوصف تشيلكوت من قبل كثيرين بأنه رجل دقيق لا يقبل إخفاء الحقائق مهما كانت قاسية، وتشيلكوت المولود في  نيسان/ أبريل 1939، تلقى تعليمه في معهدي "برايتون" و"بيمبروك" بـ"جامعة كامبردج" ببريطانيا حيث درس الإنجليزية، واللغات الحديثة والعصور الوسطى.

وشغل عددا من الوظائف والمناصب الرسمية الرفيعة والمتنوعة في الحكومة البريطانية سواء في وزارة الداخلية، أو وزارة الخدمة المدنية أو مكتب رئيس الوزراء، وصولا إلى منصب مستشار الملكة.

عمل سكرتيرا دائما في مكتب إيرلندا الشمالية منذ عام 1990 قبل أن يتقاعد من مهنته كموظف حكومي نهاية عام 1997، وجاء توليه لهذا المنصب خلال ذروة الاضطرابات التي شهدتها إيرلندا، ويحسب له أنه ساعد رئيس الوزراء في ذلك الوقت جون ميجور في التفاوض مع الحكومة الإيرلندية.

عمل مستشارا سابقا لوكالات المخابرات والأمن البريطانية، للتعامل مع الشكاوى الخاصة والشخصية من أفراد أجهزة المخابرات حول عملهم.

اختير بالفترة من عام 1999 وحتى 2013 رئيسا لمجموعة مستقلة معنية بهندسة البناء والهندسة المدنية، تأسست عام 1942 لتقديم المعاشات والرعاية الصحية والرعاية الاجتماعية وغيرها من الفوائد إلى 6500 شركة، وحوالي ربع مليون موظف يعملون في مجال البناء والتشييد.

كان عضوا سابقا في مجلس البلاط الملكي ومستشار الملكة إليزابيث الثانية.

واختير تشيلكوت عضوا في لجنة "تحقيق بتلر" التي تشكلت لبحث مسألة استخدام المعلومات الاستخبارية المتعلقة بأسلحة الدمار الشامل بالعراق في الفترة التي سبقت احتلاله وأخذت حجة للغزو في آذار/ مارس عام 2003.

في حزيران/يونيو عام 2009، أعلن رئيس الوزراء في ذلك الوقت غوردن براون أن تشيلكوت سيرأس لجنة التحقيق في الحرب على العراق، وأثار اختيار براون أعضاء لجنة التحقيق انتقادات حول مدى استقلاليتها عن الحكومة. وقال منتقدوها إنها تفتقر إلى وجود خبراء قانونيين وإن الشهود لن يدلوا بشهاداتهم تحت القسم.

وبدأت اللجنة جلساتها في تشرين الثاني/نوفمبر عام 2009 بمراجعة السياسة التي تبنتها بريطانيا بخصوص العراق، واستمعت لإفادة نحو 150 شاهدا من كبار المسؤولين السياسيين والعسكريين والأمنيين البريطانيين، كان بلير على رأسهم وكذلك خلفه براون.

وبعد تأخر اللجنة في نشر تقريرها بالموعد المفترض عام 2012، طالب رئيس الوزراء البريطاني ديفد كاميرون عام 2014 "لجنة تشيلكوت" بنشر تقريرها قبل نهاية العام لعدم وجود مبرر لتأخير نشره.

لكن التقرير أحيل إلى الأمن الوطني لفحصه لتضمنه كما ضخما من المواد الحساسة وفق إفادة رئيس اللجنة، ويعد بلير وعائلات الجنود الذين قتلوا بالعراق، والجيش والاستخبارات وحزب العمال والبرلمان، والعلاقات بين لندن وواشنطن الموضوعات الرئيسية بالتقرير.

في تموز/يوليو الحالي - وبعد أكثر من سبع سنوات من تشكيل اللجنة- صدر تقرير "لجنة تشيلكوت" الذي قرأ تشيلكوت ملخصا له أمام مجلس العموم، وجاء فيه أن بريطانيا فشلت في تحقيق أهدافها من الحرب وأن الرئيس العراقي صدام حسين لم يكن يشكل تهديدا فوريا للمصالح البريطانية، وأن الخيارات السلمية لم تستنفد، وأن بريطانيا والولايات المتحدة قوضتا سلطة مجلس الأمن الدولي.

وقال تشيلكوت إن إعلان التقرير جاء بعد انتهاء عملية تدقيق من قبل الأمن الوطني دون حذف أو حجب لأي جزء منه، وأنه متاح لأسر المدنيين و179 جنديا بريطانيا قضوا في حرب العراق فرصة الاطلاع عليه قبل نشره.

يوضح "تقرير تشيلكوف" أن نظام صدام حسين لم يكن يشكل خطرا على المصالح البريطانية، وأن مزاعم أسلحة الدمار الشامل العراقية كانت بناء على معلومات استختباراتية غير دقيقة، وأن الحرب التي شنتها المملكة المتحدة والولايات المتحدة ضد العراق في 2003 لم تكن ضرورية، وأن القرار بغزو العراق لم يكن صائبا ولم يحقق الأهداف التي أعلنتها الحكومة، مشيرا إلى أنه بني على أخطاء عديدة في التقدير.

وعن الدروس التي ينبغي استقاؤها من الحرب قال تشيلكوت: "توقعي الأكبر هو أنه لن يكون ممكنا في المستقبل خوض مشروع عسكري أو حتى دبلوماسي على هذا المستوى وبهذه الخطورة دون إجراء تحليلات وتقييمات سياسية متأنية ودقيقة".

وقال: "لم نسع لانتقاد أي أحد من البداية، فلسنا محكمة أو قضاة أو لجنة محلفين".

لكن بلير، المتهم الأول في التقرير، لا يريد أن يخرج من شخصية مندوب المبيعات المتجول الذي يبدي حماسة في المزادات أكثر منه رئيس وزراء لدولة كانت ذات يوم إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، لذلك يواصل الدفاع عن قراره إشراك القوات البريطانية في عملية غزو العراق، ويصر على أنه سيعيد الكرة إذا ظهر تهديد مماثل لذلك الذي كان يشكله صدام حسين في العراق.

"اعتذر" بلير مع ذلك عما وصفه بالخلل الاستخباري حول امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل وقدرته على استخدامها. كما "اعترف" بحصول قصور في التخطيط لفترة ما بعد الحرب وفشل في استشراف سنوات العنف وسفك الدماء التي أعقبت قرار حل الجيش العراقي والمؤسسات الأمنية.

فيما لا يزال رفض رئيس الوزراء الأسترالي الأسبق جون هاورد في حالة إنكار معتبرا "أن قرار الذهاب إلى العراق كان مبرراً في تلك الفترة". وأضاف هاورد: "أعتقد أن قرار الذهاب إلى العراق كان مبرراً في تلك الفترة ولا أتراجع عن ذلك، فالأسلحة كانت موجودة قبل الغزو، والاستخبارات لم ترتكب أخطاء".

بعد 13 عاما على الغزو الأنغلو- أمريكي يتضح من جديد، كما في الانفجار الهائل الذي هز الكرادة في بغداد نهاية الأسبوع الماضي وذهب ضحيته نحو 250 قتيلا، أن المأزق الذي يعانيه الشعب العراقي ما زال بلا نهاية، وأن الفوضى التي أحدثها الثنائي العجيب بوش- بلير كانت نوعا من الهلوسة ونموذجا على الفشل في تجنب هذه الكارثة البشعة.
0
التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم