كتاب عربي 21

على غزّة أن تموت

نزيه الأحدب
1300x600
1300x600
عندما كان الجيش السوري عام 1982 يحرق مدينة حماه ويقتل أبناءها ويروّع بناتها ويقصف أحياءها بالطيران ثم يطمر ركامها بركامها بحجّة إنهاء "انقلاب جماعة الإخوان المسلمين وتآمرهم على الدولة والنظام"، لم يطلب أهل حماه من مواطنيهم السوريين أكثر من إيواء العائلات النازحة أو الشبان الهاربين من عيون السلطة ومخابراتها، ووضعوا ظلامتهم عند فئة تسيطر على الحكم دون أن يتهموا موظفي القطاع العام من أبناء المدن والأرياف السورية بالخيانة، فالتعامل المدَني مع سلطةٍ محلية مستبدة نوعٌ من الأمر الواقع يشبه استصدار جواز السفر وإجراء المعاملات الرسمية في الدوائر الحكومية الرجعية، ولا يماثل التعامل مع احتلال خارجي أو دولة طامعة بالسيادة الوطنية. 

وعندما أحرق الجيش نفسه بأمر من الرئيس الراحل حافظ الأسد مدينة لبنانية هي طرابلس في الأعوام 1983 و1985 و1986 بسلسلة مجازر متكررة بلغت في خريف العام 1985 حدّ قصف المدينة بما يشكل مجموع وزنه من الصواريخ والقذائف الثقيلة نصف قنبلة نووية، بدعوى إنهاء سيطرة حركة التوحيد الإسلامي المقرّبة قيادتها من إيران ومنظمة التحرير الفلسطينية في آنٍ معا، لم يتمن الطرابلسيون من أفراد الجيش السوري أكثر من رمي القذائف بدون صواعقها المتفجرة أو توجيهها نحو البحر وخارج الأحياء السكنية، ولم يعتبر أهل طرابلس في حينه مواطني سوريا بأنهم متآمرون ويعمون عيونهم عما يرتكبه أبناؤهم بحق طرابلس الشام، التي تعذر صمت السوريين المطبق لأنها تدرك حجم كلفة أي اعتراضٍ على الأسد في تلك الفترة وهي بالضرورة ليست أقل من الانتحار، كذلك لم توصِم من يتعامل مع النظام السوري من العرب بالخيانة.

عندما انطلقت ثورة الأرز على الحكم السوري للبنان إثر اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري ومجموعةٍ من الشخصيات المناوئة للنظام السوري المتهم سياسيا وشعبيا بالضلوع في هذه الاغتيالات، كان المزاج الشعبي السوري مؤيداً لبشار الأسد وكان يعتبر أن قوى الرابع عشر من آذار تعمل بقصد أو بغيره لصالح الولايات المتحدة و"إسرائيل"، وأن ثورة الأرز ليست إلا حركةً شوفينية عنصرية لبنانية ضد الإنسان السوري. مرةً جديدة التمس معظم اللبنانيين الأعذار للسوريين الذين أعلنوا ولاءهم لحاكمهم.

عندما انقلب الجيش المصري بقيادة الجنرال عبد الفتاح السيسي على حكم الرئيس محمد مرسي في مصر، ونفّذ محرقة في ساحات القاهرة بحق معتصمين سلميين من جماعة الإخوان وغيرهم رافضين للانقلاب، رفع بعض الفلسطينيين في غزة شعارات مؤيدة لمرسي الذي دعم الفلسطينيين أثناء الحرب الإسرائيلية على غزة في شتاء 2012، لكن سرعان ما ضبطت حكومة حماس هذه الاحتجاجات بما يتناسب مع وضع القطاع الحرِج في ظل الحصار الإسرائيلي، ومع ذلك اتّهمت سلطة الانقلاب حماس بالتدخّل في الشأن المصري.

عندما أحرق جيش الاحتلال الإسرائيلي قطاع غزة بالفوسفور وغيره شتاء 2008/2009، بذريعة "إنهاء سيطرة حركة حماس على القطاع"، وأقفل الجيش المصري معبر رفح عن جرحى الحرب وخبز الناس وحليب الأطفال وأدوية المرضى، وتوعد وزير خارجية تلك المرحلة أحمد أبو الغيط بكسر رجل أي فلسطيني تتجاوز المعبر بعد أن كان تأبط قبل أيام قليلة ذراع نظيرته الإسرائيلية تسيبي ليفني حتى لا تزلّ قدمها على درَج قصر الرئاسة المصري في اللقاء الشهير الذي أبلغت فيه ليفني الرئيسَ حسني مبارك بعزم "إسرائيل" على شن حرب على غزة، في هذه المرحلة لم يطلب الفلسطينيون ولا حركة حماس من المصريين أو من جماعة الإخوان المسلمين ولا من الجهات العربية مقاطعة النظام المصري لصالح قفزة في المجهول أو الفراغ، بل لم يتعد الطموح الفلسطيني الواقعي حدود الضغط الدبلوماسي على الحكومة المصرية لغض النظر عن تمرير احتياجات قطاع غزة الإنسانية ولو عبر الأنفاق.

عندما نجحت حركة حماس في مقاومتها وتصديها للاحتلال، فتح محور الممانعة بقيادة إيران والنظام السوري خطوط الدعم العسكري واللوجستي والمالي لحماس التي كانت تعاني من إقفال أبواب الحكومات العربية في وجهها بعد فوزها في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني عام 2006 على حركة فتح، في محاولة لإجهاض ما تسمّيه حماس الحسم العسكري في غزة لحماية خيار الفلسطينيين الديمقراطي، وتعتبره حركة فتح انقلاباً على السلطة المركزية في رام الله.

عندما جفّت معظم مصادر تمويل حماس حتى من زكاة الميسورين العرب بعد حظر هذه الزكاة واعتبارها دعماً للإرهاب، وعندما أوقفت السلطة في رام الله رواتب قطاعات عديدة في غزة سيطرت عليها حماس، حضرت إيران في التوقيت المناسب وقدّمت أموالها للمتاجرة بالقضية الفلسطينية بعد أن أوقفت العديد من الدول العربية متاجرتها بهذه القضية بعد انتفاء حاجتها إليها لاعتبارات عدة ومختلفة.

وعندما فُكِّكت وطُردت خيمة المكتب السياسي لحركة حماس من دول محور الاعتدال العربي، اصطاد النظام السوري اللحظة وقدّم ما لم تكن تحلم به حماس من دعمٍ مكّنها من تطوير قدراتها على مقاومة الاحتلال الإسرائيلي بشكلٍ مذهل وعلى جميع الأصعدة، وجعل قادة حركة حماس "ملوكاً غير متوّجين في سوريا" وفق توصيف رئيس المكتب السياسي خالد مشعل.

عندما ثار الشعب السوري على نظامه الاستبدادي عاد هذا النظام إلى تاريخه الموغل بدماء شعبه وما تيسّر من شعوب الجوار، وشاركت إيران وتوابعها من الشيعة العرب والأفغان والباكستانيين في مساندة الأسد بقتالٍ لم يستطع العرب أن يقرؤوه إلا حرباً مذهبية تمتد رقعتها لتشمل سوريا والعراق واليمن والبحرين.

عندما وجدت قيادة حركة حماس استمرار وجودها في دمشق نوعاً من الغطاء تقدمه شرعيةُ المقاومة الفلسطينية لملحمة كثر الجزارون فيها والضحية وحيدة هي الشعب السوري، قررت مغادرة دمشق، مما أغضب إيران التي حذت حذوَ دول عربية فأوقفت تجارتها بالقضية الفلسطينية رغم حاجتها إليها أكثر من أي وقتٍ مضى.

أربع سنوات ونيّف مرت على حماس وهي تضع حجراً على بطنها في الداخل الذي يقارب الانفجار الشعبي بوجهها لولا قدسية بندقية المقاومة في الوجدان الفلسطينيي، فيما تضيق السبل أمام قيادتها في الخارج، هذا الخارج الذي بات لا يتعدى قطر وتركيا إلى حد كبير، في ظل أزمات مالية تضرب الجميع في المنطقة. وفيما ينتظر الفلسطينيون أن تُنهي المصالحة الوطنية حصار قطاع غزة تبرز العقد القديمة الجديدة في وجه هذه المصالحة مع تبادل طرفي الانقسام الاتهامات حول مسؤولية العرقلة، ويراهن كثيرون على أن يفعل الحصار في حماس ما لم تفعله الحروب معها، لا سيما وأن الحصار بات عليها شبه كَوني.

من قلب هذا المشهد الصاخب بدماء الفلسطينيين في القدس والضفة وموتهم جوعاً في مخيم اليرموك بحصارٍ متعدد الأطراف، وضيق تنفسّهم الجمَعي في قطاع غزة المتحول إلى سجن حقيقي، تُلاحَق حركة حماس من قبل "الثائرين الجدُد" إذا مارست أي فعلٍ دبلوماسي مع نظامٍ جائر ولو في الحدود الدنيا، علماً أن هذه الأنظمة نفسها كانت تقتل الفلسطينيين على الشّبهة دون أن يقطع أحدٌ علاقاته معها.

ربما على غزة أن تموت جوعا وقهرا ومرَضا خارج أي دعمٍ عربي أو إسلامي أو دَولي، حتى يهنأَ "الثائرون الجدد" ويتمكّنوا من الإطاحة بحكم بشار الأسد في سوريا وانقلاب عبد الفتاح السيسي في مصر والحكم الطائفي للعراق وتمرد الحوثيين في اليمن.

ختاما، روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "دخلت امرأة النار في هرَّةٍ ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض".

وعلى موقع الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية، تحت عنوان أبحاث كبار العلماء وجدت هذه الفتوى المفيدة: "... وثبت بالأدلة الصحيحة أيضاً أنه يجب على الإنسان أن يحافظ على حياته، حتى إنه يجوز له أن يأكل حال الضرورة ما هو محرّم عليه حال عدمها من ميتة الأنعام والدم ولحم الخنزير إلخ... بل يجب عليه أن يأكل من ذلك إذا خشي على نفسه الهلاك، ومقتضى ذلك أنه يجوز له أو يجب أن يأكل ميتة الآدمي إبقاء على حياته...".
التعليقات (1)
محمد
السبت، 25-06-2016 12:28 ص
الارتباط بالله اولا ثم اعداد القوة المرعبة الرادعة وحده سيرعب العدو و حلفاءه