مقالات مختارة

ذكرى حرب الأيام الستة وهزيمة العقل العربي

أحمد القديدي
1300x600
1300x600
هل نسي العرب الذكرى التاسعة والأربعين لحرب الخامس من يونيو 1967 وهم يعانون مصائبهم الجديدة في الفلوجة وفي حلب وفي الرقة وفي تعز وفي سرت! وآخرها في إدلب حيث استشهد أطفال ونساء بقصف روسي نفته روسيا يوم الثلاثاء الماضي. فمر العرب على الذكرى مرور الكرام كأنما أصيبوا بفقدان الذاكرة وفضلوا دفن رؤوسهم في رمال التاريخ ومحو تلك الذكرى تماما، بينما يقتضي وضعنا العربي الراهن أن نستخلص العبرة من هزيمة جيل كامل حكمته أيديولوجيات دخيلة تسمى القومية والتقدمية والاشتراكية!، شعارات جوفاء من نوع "لا صوت يعلو على صوت المعركة" حتى خسرنا كل المعارك ولا نزال.

في الخامس من يونيو 1967 كنا في العشرين من أعمارنا الغضة، نحلم باستعادة أمجاد الأمة وربما كنا نصدق "أحمد سعيد" وهو يصرخ في إذاعة صوت العرب بأن موعد الجيوش العربية في تل أبيب، وكنا نسمع إذاعة البي بي سي تقول ليلة الرابع من يونيو بأنه على الجانب الإسرائيلي لا شيء يوحي بالحرب، أما على الجبهات العربية فالأناشيد الحماسية تشيد بالنشامى، وكان المشير الركن المهيب يتجول بين صفوف العسكر وصدره مزين بالأوسمة الملونة والنياشين اللماعة!

وكانت ذكرى مصرع ملك العراق فيصل ورئيس حكومته نوري السعيد ووزرائه وأفراد عائلاتهم حاضرة بعد في الأذهان، وعلى إثرها سالت دماء اللواء الرئيس عبد الكريم قاسم العسكري ذاته الذي قتلهم وسحلهم في شوارع بغداد، وما زالت سوريا آنذاك تعج بالمساجين من رؤساء وسياسيين ومثقفين ولا تقدر على حشد الجيوش أو تحقيق النصر، ومصر كانت تحت وطأة الصراع الدموي بين عبد الناصر والإخوان المسلمين حيث وصلت المحنة إلى إعدام المفكر سيد قطب في أغسطس 1966.

كان الشعب العربي في الشهر السادس من سنة 1967 يحاول الخروج من نير الاستعمار والتخلف وكانت الجماهير العربية ترجو من حكامها تَحَمُّل أمانة نصرة فلسطين، ولكن الهزيمة كانت في جينات تلك الأنظمة! لم تدرك النخب الحاكمة حينئذ أن ما هو مطلوب من الدول ليس سوى إشراك الناس في سن الخيارات وتوفير الحريات العامة لمنع الاستبداد والفساد، ثم التعامل مع العصر بأدوات العصر أي بالمنطق ومراعاة الواقع واحترام الاختلاف وكسب الرأي العام العالمي باحترام القانون الدولي. فكانت كارثة الهزيمة التي سميناها "نكسة" مبرمجة في سياق التاريخ.

لا نزال نأمل في أن يعود للعقل العربي وعيه الغائب ونتفاءل ونتوقع نهضة الأمة بفضل انتصار التأصيل على الاستئصال، بعد أن عشنا أعمارنا "من أجل هذه اللحظة التاريخية" كما قال قائل من تونس سنة 2011، وننتظر بزوغ هذه الشمس الساطعة الغراء وانبلاج هذا الفجر المقدس.

ورغم الدروس القاسية التي ألقاها علينا التاريخ منذ 1967 وتفجيرات العنف التي تعصف بدول الشرق الأوسط تقتل العرب الأبرياء، فإننا نعيش مرحلة مخاض عسيرة أحد مؤشراتها أن أعدادا كبيرة من شبابنا العربي يختار اليوم بين أن يركب زوارق الموت الصغيرة التي تحمل زهرات شبابنا عبر البحر الأبيض المتوسط ليلتحقوا بسواحل أوروبا حاملين شهادات لم تنفعهم في أوطانهم، أو السفر إلى ليبيا أو العراق أو سوريا للانضمام إلى الجماعات المسلحة.

ورغم أننا كنا منذ عقود نقرأ إحصاءات الأمية المتفشية في البلدان العربية في تقرير منظمة الأمم المتحدة، أو نسمع زعماء العالم الأقوياء يتوعدوننا بالويل والثبور وعظائم الأمور إذا لم نصلح تعليمنا ونغير خرائطنا ونحرر مجتمعاتنا، فإن أول ما كنا نفكر فيه هو أن العقل العربي مني بهزيمة نكراء أو للتفاؤل لنقل "نكسة" كما فعلنا مع الخامس من يونيو 1967.

كل من يقرأ تاريخ العقل العربي منذ انتشار الرسالة الإسلامية إلى اليوم، يقف حائرا حسيرا أمام النكبة التي أصابته والانحدار الذي اعتراه. هذا العقل الذي قدم للإنسانية علوم الرياضيات والفلك والجغرافيا والجبر والطبيعة وأسس لها علم الاجتماع وفلسفة التاريخ وأبدع الأدب والفنون وعرف كيف ينقل عن الثقافات المختلفة ويضيف إليها دون عقدة أو انغلاق، كيف تقهقر إلى الوراء وتجمدت أطرافه وتصلبت شرايينه ولحقه عفاء الزمن؟

إنها ظاهرة خطيرة أن يتقلص العقل العربي إلى دور التقليد بعد مجد الإبداع، وأن يقتصر على التبرير عوضا عن التفكير، وأن تجف منابع الاجتهاد ليتحول العرب إلى ببغاوات التقليد والتكرير وإعادة إنتاج ثقافات الأمم الأخرى في عالم لا مكان فيه إلا للمبدعين ولا مستقبل فيه إلا للمبتكرين!

أين انتفاضة أبي ذر الغفاري وثورة ابن المقفع وحيرة أبي العلاء المعري واجتهاد ابن رشد وإبحار الجاحظ في العلوم الطبيعية وقانون الطب الذي وضعه للإنسانية الرئيس ابن سينا وترجمات بيت الحكمة والمدينة الفاضلة لأبي نصر الفارابي والتحليل العميق للمجتمعات الإنسانية الذي قام به العلامة ابن خلدون؟ بل أين نحن من اكتشافات ابن النفيس وطبائع الاستبداد للكواكبي وأقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك للوزير خير الدين التونسي وتخليص الإبريز لرفاعة الطهطاوي وقواعد الوحدة الإسلامية لجمال الدين الأفغاني؟

لا شك في أن العقل العربي تخلف وارتد عن هؤلاء العمالقة الرواد، ولا مجال البتة لمقارنة مجد العقل العربي الزاهر بحالته الراهنة الكاسدة التي وصلت إلى يوم أصبحنا نجني فيه الثمرات المرة المسمومة للصراعات الطائفية والقبلية والعشائرية والدينية! فالمقارنة كادت أن تؤدي بنا إلى الإحباط واليأس والقنوط. وطالما كنا نتطارح ونتناقش حول الأسباب المختلفة التي أطاحـت بقـلاع العقل العربي ودمرت حصونه، وطالما تواصينا بأفضـل الحـلول وأنجـع العلاجـات للخروج من عصر الظلمات الذي أناخ بكلكله على العالــم العربــي منـذ أن استقلت شعوبنا وأقامت دولا وأعلنت جمهوريات وحتى جماهيريات ورفعت عقيرتها بالشعارات وتخيلت الثورات وتعاقبت فيها الانقلابات وتمت القطيعة الكاملة بين أصحاب الأمر وأصحاب الفكر.

كأننا أعجاز النخل الخاوية التي ذكرها رب العالمين في القرآن. والغريب أن هزيمة العقل العربي تواصلت حثيثة في عالم استيقظ منذ عقود على نداء العولمة ووحدة المصير، ونكاد نحن العرب نطرد أنفسنا طردا من دائرة التاريخ.

عن صحيفة الشرق القطرية
0
التعليقات (0)