قضايا وآراء

الحكامة الأمنية في سياق الانتقالات الديمقراطية

محمد مالكي
1300x600
1300x600
أثبتت عمليات الحراك التي عاشتها العديد من البلاد العربية مع مستهل 2011، والتي ما زالت مُستمرة بأشكال مختلفة، المكانة المركزية للمؤسسة الأمنية في المحافظة على الأوضاع القائمة، أو المساهمة في التغيير الذي تتوق المجتمعات ونخبها لإنجازه وتوطيد نتائجه. ولأن المؤسسة الأمنية في مجمل الدول العربية ظلت الذراع الأقوى والمصدر الأهم لتعزيز وجود النظم الشمولية، وضمان ديمومتها، فقد عزَّ على الكثير من النخب المتطلعة إلى التغيير إعادة هيكلة مؤسسات الدولة، وأجهزة الأمن تحديداً، بُغية تمكين الانتقالات الديمقراطية من الوصول إلى مقاصدها.

نقصد بـ"الحكامة الأمنية" في هذا المقام الحكامة الأمنية الجيدة، التي تُحول هذا المرفق من أداة هيمنة وقمع للحريات الفردية والجماعية، إلى مؤسسة في خدمة الجميع باسم القانون وتأسيسا على الشرعية. فالأمن أولا لم يعد ذي بُعد واحد، أي المحافظة على الوضع القائم بأي ثمن، بل توسعت معانيه لتشمل كل مناحي الحياة، أي كل الجوانب التي تتيح للإفراد والجماعات شروط العيش المشترك، وتُقنعهم وتشحذ وعيهم الانخراط في الشأن العام بإرادة وولاء قوين.. إن الحكامة الأمنية المطلوبة والمنشودة في المجتمعات الانتقالية، كما هو حال البلاد العربية، هي التي تجعل الناس متصالحين مع مؤسسات وأجهزة أمنهم، وتُحوِّلهم من مجرد خاضعين ومستكينين، إلى مواطنين مشاركين في حماية أمن بلدانهم، ومدافعين عن ديمومته واستمراره.

يعرف القارئُ الكريم أن موضوع الأمن في بلادنا العربية ما زال عنوانا مُخيفا عند النطق به، أو سماع ذكره، أو الاحتكاك به حتى في لحظات الضرورة، وكثيرا ما يتجنب الناس، حتى وإن اقتضى الأمر منهم التنازل عن حقوقهم، التواصل مع أجهزة الأمن، أو الاحتماء بها وطلب خدماتها، علماً أنها مرفق مثل كل المرافق، وظيفتها تلبية حاجيات المرتفقين ليس إلا. لكن يعرف القارئ الكريم، بالمقابل، أن الصورة التي تمَّ بثُّها في مِخيالِنا الجماعي، وتعمَّدت مُمارسات عقود كثيرة ترسيخها في أذهاننا أن أجهزة الأمن مُخيفة بطبيعتها، وأن الجميع مطالب بالخنوع  لها دون تساؤل أو نقاش أو اعتراض. ثم إن مفهوم "الحكامة الأمنية" نفسه حديث الولوج إلى دائرة اهتمامنا العربي، بل أكاد أجزم أنه ما زال محصورا في دوائر جد ضيقة ولم يتلمس بعد طريقه إلى الاهتمام الجماعي، فبالأحرى النقاش العمومي.

وإذا شئنا الانتقال من التجريد إلى التشخيص ونظرنا إلى واقع المؤسسات الأمنية في البلاد العربية التي عرفت انتقالات في أعقاب الحراك الذي مسَّ مجتمعاتها، أو التي ما زالات الآفاق لم تتضح بعد في ربوعها، فإننا دون شك سنلمس أهمية الحكامة الأمنية الجيدة في إنجاح عملية الانتقال الديمقراطي، وتوطيد بنيانه. ففي تونس، على سبيل المثال، يعرف الجميع الدور المؤثر لأجهزة الأمن الخاصة ووزارة الداخلية في تقوية هيمنة النظام المنهار (على عهد الرئيس المخلوع ابن علي (وضمان استمراره لأكثر من عشرين سنة). والأمر نفسه  ينسحب على مصر في عهد "حسني مبارك"، وهو ما يُلمسه بقوة أكثر في سوريا، حيث تعددت أجهزة الأمن، وتكاثرت إلى حد الاختناق. والواقع أن الظاهرة عامة ومشتركة في البلاد العربية، وإن اختلفت درجاتها من دولة إلى أخرى.

تكمن أهمية إعادة هيكلة مؤسسات الدولة، وتحديدا المؤسسة الأمنية، بما يجعلها مواكبة للمرحلة الانتقالية ومُعضِّدة لها، في كونها تقطع مع النظام أو النظم المنهارة، وتتناغم مع الرؤى الجديدة للتغيير، وتعزز حظوظ نجاحها. ثم حين تعبر المؤسسة الأمنية عن انحيازها للتغيير وتؤكد ولاءها له وللنخب الرافعة لمشروعه، ستولد حالة من الاطمئنان في نفوس الناس، وتشحذ إراداتهم للاستمرار منخرطين في التدافع صوب بناء المجتمع السياسي الجديد.

لننظر ، على سبيل المثال، في التجارب التي سبقت منطقتنا العربية، وأعادت هيكلة مؤسساتها الأمنية بشكل جعلها داعِمة لديناميات التغيير في بلدانها، من قبيل جمهوريتي "جورجيا" و"جنوب إفريقيا" تحديدا، ولنحاول فهم فلسفة التغيير وتمثل الدروس المستفادة منها.

لعل أول مفتاح ساهم في نجاح التجربتين المشار إليهما أعلاه يكمن في توفر "الإرادة السياسية" لإصلاح المؤسسة الأمنية. ونقصد بالإرادة السياسية هنا التوافق عبر الحوار والتداول حول ضرورة الإصلاح الأمني في تعزيز عملية الانتقال الديمقراطي.و يعقب التوافق الجماعي ، الواضح والواعي، وضعُ إستراتيجيات الإصلاح، أي تحديد فلسفة الإصلاح، و رسم خطواتها، وتشخيص أدواتها ووسائلها. وقبل هذا وذاك بناء التأييد الواسع حولها، وفق منهجية حوارية وتشاركية. ثم الإصرار على المضي في عملية الإصلاح بالتطوير والتقييم ومراكمة الانجازات..إنها إحدى العناصر الأساسية في سر نجاح تجربتي جمهوريتي جورجيا وجنوب إفريقيا.

هناك طبعا إلى جانب مفتاح الإرادة السياسية مفاتيح كثيرة أعطت للإصلاح الأمني في التجارب الدولية الناجحة قوة وزخما أكثر لا يسمح المقام بتدقيقها. غير أننا نعتبر توفر الإرادة السياسية في الحالة العربية مفتاح المفاتيح، وبدونها يتعذر بناء رؤية فعالة وناجعة لنجاح الانتقالات في مجتمعاتنا العربية.. ولا يخالني شك في أن القارئ النبيه والمطالع العميق لما يجري في بلادنا العربية يُدرك خير الإدراك ضعف توفر مثل هذه الأرادة، وتعدد المقاومات لتحققها، وتضارب المصالح وتنازعها  للحيلولة دون تحققها..

وحتى يكون المرء موضوعيا، نقول: ليست المقاومات داخلية فحسب، بل إنها أيضا اقليمية ودولية، وهذا ما يعقد النجاح في مشروع إصلاح مؤسسات الأمنية في أوطاننا.
0
التعليقات (0)