قضايا وآراء

المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط: الواقع والصورة النمطية

منار محيسن
1300x600
1300x600
العلاقات بين الدول ليست زواجا كاثوليكيا، وإن بدت كذلك في فترات زمنية معينة ووفقا لظروف خاصة لم تسمح الكمية المتوفرة لدى المتابع من المعلومات بالحكم على طبيعتها. فالسياسات الخارجية للدول ذات النفوذ تنحصر في تحقيق مصالحها القومية الاقتصادية والأمنية والتي يتم تسويقها في كثير من الأحيان تحت غطاء من القيم. في المقابل، تسعى الدول المخترقة إلى استجداء الشرعية الدولية عبر صياغة مصالحها القومية بما يتماشى مع مصالح الدول الكبرى، وبما يضمن حماية أنظمتها على حساب المصالح الحقيقية لمواطنيها. العلاقات الأمريكية مع دول منطقة الشرق الأوسط هي مثال صارخ للواقعية السياسية التي تحكمها المصالح القومية للطرف الأقوى، بغض النظر عما يترتب على ذلك من فوضى وغليان شعبي وكثير من الضحايا المدنيين.

ما لا تعتبره الولايات المتحدة مصالح قومية

في ضوء ما تقدم، فإنه يمكن استثناء عدة أمور قد يتم اعتبارها خطأ من قبل بعض المتابعين من ضمن المصالح الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط.

أولا: إن الولايات المتحدة لا تسعى لإرساء أنظمة ديمقراطية في المنطقة، ولا تضع قضية حقوق الإنسان من ضمن أولوياتها، بغض النظر عن التصريحات التي يدلي بها المسؤولون الأمريكيون كشكل من أشكال النأي بالنفس عن الممارسات القمعية لبعض الأنظمة الحليفة. على سبيل المثال، دعمت الولايات المتحدة الانقلاب على الحكومة الديمقراطية للدكتور مصدق في إيران عام 1953 حين تعارضت مصالحها مع تأميم الشركات النفطية من قبل الحكومة الإيرانية. كما أن الموقف الأمريكي السلبي من ثورات الربيع العربي التي نادت بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية يصب في هذا الاتجاه. أما فيما يتعلق بمسألة حقوق الإنسان فإن الولايات المتحدة تربطها علاقات سياسية قوية بدول تنتهك حقوق الإنسان، دون أي موقف من قبل الولايات المتحدة يترجم فعلا على أرض الواقع يوقف هذه الانتهاكات.

ثانيا: إن توقيع اتفاقية سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين ليست من ضمن أولويات الولايات المتحدة. فبالعودة إلى تاريخ التفاوض العربي - الإسرائيلي، يمكن الجزم بأن دعوات الولايات المتحدة الأمريكية إلى مفاوضات سلام كانت تلبية للرغبة الإسرائيلية أو كردة فعل لعوامل خارجية، بحيث لم تخرج المقترحات الأمريكية عادة عما يراه الإسرائيلي ممكنا. بالإضافة لذلك، فإن الولايات المتحدة تقدم دعما ماليا للسلطة الفلسطينية يستخدم غالبا كعصى من أجل خدمة الطرف الإسرائيلي، مما يفاقم الاعتماد الفلسطيني على الخارج ومن ثم يؤدي إلى ضعف القدرة الفلسطينية على صياغة قرارات سياسية تخدم المصالح القومية في مواجهة التطرف الإسرائيلي المتصاعد. يبدو ذلك جليا في حجم التنازلات التي كشفت عنها الأوراق المسربة من مكتب الدكتور صائب عريقات، كبير المفاوضين الفلسطينيين، في 2011. على الصعيد العربي الرسمي، فإن القضية الفلسطينية لم تعد أولوية سياسية، وأصبح التقارب العلني أو غير العلني مع إسرائيل أمرا ضروريا يمليه - حسب صانع القرار العربي والإسرائيلي - التمدد الإيراني في المنطقة. يُفقد هذا التقارب العربي - الإسرائيلي الآخذ في التصاعد الجانبَ الفلسطيني الدعمَ العربي، مما يتيح لإسرائيل مزيدا من القدرة على تحديد سقف طموحات الجانب الفلسطيني. تبعا لذلك، أصبحت إسرائيل قادرة على إدارة الملف الفلسطيني دون كثير تدخل من قبل الإدارة الأمريكية.

ثالثا: يذهب البعض إلى أن الولايات المتحدة لا تكترث بالصراع الطائفي في الشرق الأوسط، وبذلك لديها استعداد للاصطفاف مع من يساهم في تحقيق مصالحها. فيما يذهب البعض أبعد من ذلك، بالقول بأن الولايات المتحدة هي من أذكت الصراع الطائفي في العراق بعيد احتلاله عام 2003، وواصلت التحالف مع حكومات مارست الطائفية على الأرض. أيا يكن الأمر، فإن الولايات المتحدة لا ترى الصراع الطائفي مهددا لمصالحها بقدر ما هو إضعاف للمنطقة برمتها، ومن ثم يعتبر مساهمة مجانية من أنظمة وشعوب المنطقة في تحقيق المصالح الأمريكية بأثمان أقل. لكن من المؤكد أن الولايات المتحدة لن تسمح بانتصار طرف على آخر، لأن ذلك سينتج عنه قوة "عظمى" إقليمية سيصبح من الصعب اختراقها سياسيا مما قد يهدد مصالح الولايات المتحدة.

رابعا: فقد الشرق الأوسط مكانته كساحة سجال أيديولوجي بين الغرب الرأسمالي والشرق "الاشتراكي" بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991. روسيا التي ورثت الاتحاد السوفييتي لم ترث عظمته الدولية ولا أيديولوجيته، والصين - القوة الصاعدة - والذي يعتبر اقتصادها نوعا من أنواع الرأسمالية، لم تعد الأيديولوجيا عاملا من عوامل التأثير في رسم سياستها الخارجية.

المصالح الأمريكية

كتب خبير العلاقات الدولية، آرون ميلر، مقالة في مجلة "السياسة الخارجية" عام 2012 حول مصالح الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، حيث حصر الكاتب هذه المصالح بشكل رئيسي في حماية مصادر الطاقة، وحماية أمن إسرائيل، ومكافحة الإرهاب. أتفق مع السيد ميلر بشكل كبير حول طبيعة المصالح، لكن التطورات الحاصلة في منطقة الشرق الأوسط على الصعيدين الدولي والداخلي تجعل من إعادة نقاش هذه المصالح بعيدا عن المنظور الأمريكي الصرف أمرا ضروريا.

1. مصادر الطاقة

أدت أزمة النفط الأولى عام 1973 (أكتوبر 1973 – مارس 1974) إلى رفع قيمة النفط الخام من 3 دولارات إلى 12 دولار للبرميل، وتم حظر تصدير النفط العربي إلى خمسة دول على رأسها الولايات المتحدة بسبب إمدادها لإسرائيل بالسلاح أثناء حرب أكتوبر 1973. منذ ذلك الحين، دأبت السياسة الخارجية الأمريكية على تحييد النفط كسلاح قد يستخدم ضدها بالرغم من أن الاعتماد الأمريكي على النفط العربي قد بدأ في الانحسار. كما أن أزمة النفط الثانية التي واكبت الثورة الإيرانية عام 1979 أرست قناعة لدى صانع القرار الأمريكي بأن أي اضطراب خارج عن السيطرة في أي دولة رئيسية من الدول المصدرة للنفط ستكون له نتائج سلبية على الاقتصاد العالمي، وبالتالي سيتأثر الاقتصاد الأمريكي سلبا. لذلك فإن القوات العسكرية الأمريكية المتمركزة برا وبحرا في منطقة الخليج لن تتوانى عن التدخل العسكري ضد أي دولة أو جماعة تحاول إعاقة تدفق النفط إلى الدول المستهلكة. تبعا لذلك، فإن إيران لا تحاول استثارة الولايات المتحدة، وإن كانت تطمح إلى استخدام موقعها الجغرافي المؤثر على تدفق النفط عبر مضيق هرمز كرد على استخدام النفط كسلاح سياسي من قبل المملكة العربية السعودية. لكن تبقى هذه الحرب البينية عديمة التأثير السلبي على مصالح الولايات المتحدة ما دام الإمداد النفطي مستمرا.

في المقابل، فإنه من غير المرجع أن تستخدم دول الشرق الأوسط النفط كسلاح ضد الولايات المتحدة، كما حدث في سبعينيات القرن الماضي، وذلك لأن هذه الدول تعتمد على النفط كمصدر رئيسي لميزانياتها، وأي منع لتصدير النفط سيؤدي إلى تآكل الاحتياطي النقدي الأجنبي لدى هذه الدول، ومن ثم التسبب بأزمات اقتصادية قد تؤدي إلى تغيير سياسي. وبالتالي فإن الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط يحمي التدفق النفطي في حالات خارجة عن الحسبان، وخارجة أيضا عن إرادة الأنظمة الحاكمة، أو في حال تطور الحرب بين دول المنطقة إلى مواجهات مباشرة.

2. أمن إسرائيل

يسوّق الإعلام الأمريكي أمن إسرائيل على أنه أولوية أمريكية في الشرق الأوسط بدعوى أنها الديمقراطية الوحيدة في المنطقة وبسبب التشابه الثقافي والاجتماعي بين الدولتين. خلافا لذلك، أعتقد أن حفظ أمن إسرائيل لا يمثل مصلحة أمريكية خالصة بقدر ما هو رضوخ سياسي من قبل الإدارة الأمريكية لجماعات الضغط الموالية لإسرائيل. فإسرائيل تربطها علاقات قوية مع جماعات الضغط الصهيونية والمسيحية المتطرفة وشخصيات مؤثرة في عملية صنع القرار الأمريكية، مما جعل أمنها أولوية أمريكية.

وفقا لكتاب "من يحكم أمريكا" لـ"دومهوف" - على سبيل المثال - فإن جماعات الضغط والأفراد النافذين لديهم باع طويل في صياغة المصالح القومية الأمريكية. من يحاول انتقاد إسرائيل قد يلقى مصير "بول فيندلي"، الذي فقد موقعه السياسي نتيجة لنقده المتكرر لسياسيات إسرائيل في الأراضي المحتلة، أو مصير الدكتور "ستيفن سلايطة"، الذي فقد وظيفته بسبب موقفه العلني من الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة. لذلك يتنافس مرشحو الرئاسة الأمريكية في طلب ود إسرائيل، والتركيز على أن أمنها هو أولوية أمريكية غير قابلة للنقاش. في المقابل، يعتقد عالما العلاقات الدولية الشهيران "جون ميرشايمر" و"ستيفن ولت" في كتابهما "اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأمريكية"؛ بأن جماعات الضغط الداعمة لإسرائيل تحرف بوصلة السياسة الخارجية الأمريكية، مما لا يتماشى مع مصلحة الولايات المتحدة ولا يخدم إسرائيل على المدى الطويل. بالرغم من ذلك، فإن الموقف الأمريكي من إسرائيل سيبقى ثابتا إن لم يحدث تغيير حقيقي في النظام البنيوي السياسي الأمريكي أو في توازنات القوى على المستوى الدولي.

إسرائيل وتبعا للعلاقة الجيدة التي تربطها بمعظم الدول المؤثرة في المنطقة تبدو بعيدة كل البعد عن خطر وجودي يستلزم تدخلا أمريكيا كما حدث عام 1973. لكن إسرائيل تواصل الادعاء بأنها مهددة من قبل جيرانها حتى لا يتوقف الدعم الأمريكي لها ومن أجل تعزيز موقف داعميها داخل الولايات المتحدة وأوروبا.

3. مكافحة الإرهاب وردع إيران

ترتكز السياسة الخارجية الواقعية للولايات المتحدة على إيجاد عدو خارجي، يتم المبالغة في توصيف خطره، ويُستخدم كمسوغ لتوحيد المجتمع الأمريكي. تبعا لذلك يتم تبنى سياسات داخلية وخارجية ما كانت لتمرر لولا وجود هذا العدو. فمنذ انهيار الاتحاد السوفييتي، تعتبر منطقة الشرق الأوسط حسب المنظور الأمريكي مصدرا لمعظم الحركات المسلحة التي تدعو إلى استهداف المصالح الأمريكية. في المقابل، ووفقا لأن طبيعة العلاقات ترسمها المصالح، لا توجد أية مشكلة لدى الولايات المتحدة في التقارب مع إيران وفقا لموقف إيران من المصالح الأمريكية في المنطقة، وضمن حدود استمرار التوازن بين التحالف الشيعي والتحالف السني دون غلبة لأحدهما، والتي، كما أشرت، قد تؤدي إلى ظهور قوة "عظمى" إقليمية يصعب التحكم بسياساتها الخارجية.

يتطرق زلماي خليل زاد، المبعوث الأمريكي السابق إلى أفغانستان والعراق، في كتابه "المبعوث" الذي صدر في آذار/ مارس 2016؛ إلى التنسيق الأمريكي - الإيراني الذي يرتقي إلى مستوى التناغم قبيل وأثناء احتلال العراق. كما أن القوات الجوية الأمريكية تقاتل تنظيم الدولة في العراق إلى جانب الجماعات الشيعية المسلحة، كالحشد الشعبي، مما يحصر المواجهة بين الولايات المتحدة والمجموعات السنية التي تصنف أمريكيا على أنها إرهابية. قد تلعب إيران دورا مزعجا للولايات المتحدة في حال نشوب نزاع نفوذ علني في منطقة الشرق الأوسط بين الصين والولايات المتحدة. من المرجح أن تصطف إيران إلى جانب الصين، بينما بدأ التذمر العربي، وخصوصا السعودي، من الدور الأمريكي في المنطقة بسبب عدم اصطفاف الولايات المتحدة مع حلفائها في مواجهة التمدد الإيراني.

التطورات الدولية ومستقبل الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة

لا تواجه إسرائيل تهديدا وجوديا، بل إنها تتمتع بعلاقات جيدة مع معظم الأنظمة المؤثرة في المنطقة. كما أن توقف تصدير النفط يعتبر كابوسا للدول النفطية لاعتمادها الكبير على واردات النفط لدعم ميزانياتها. وفقا لذلك، فإن كل المؤشرات تدلل على أن الولايات المتحدة قد بدأت فعليا منذ منتصف 2011 بعملية إعادة التمحور الدبلوماسي والعسكري نحو جنوب شرق وشرق آسيا كسياسة أساسية للرئيس أوباما. تعتبر منطقة شرق وجنوب شرق آسيا، التي يسكنها ما يقرب من ثلث سكان الأرض وتضم العديد من الاقتصادات المهمة، مركزا لاهتمام الإدارة الأمريكية الحالية، وفي الأغلب ستبقى كذلك لعقود قادمة. وبما أن كلينتون، التي ينظر إليها على أنها الأوفر حظا بالفوز بترشيح الحزب الديمقراطي، كانت من ضمن صانعي سياسة إعادة التمحور، فإنني أرجح مواصلة تبني هذه السياسة في حال فوزها بالانتخابات الرئاسية المزمع عقدها نهاية هذا العام. تصب في هذا الاتجاه التغييرات القانونية اليابانية والكورية الجنوبية التي أتاحت لكلتا الدولتين إمكانية التدخل في النزاعات الخارجية التي قد تهدد مصالحهما القومية. بل إن التحالف الأمريكي مع دول شرق وجنوب شرق آسيا آخذ في التبلور من أجل لجم التمدد الصيني - خصوصا البحري - في المنطقة. في المقابل، فإن الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط لن يكون كليا، لكن الحاجة إلى وجود عسكري ضخم ودائم يبدو خارج حسابات الإدارة الأمريكية الحالية. على صعيد آخر، وفي ظل البرود الذي توليه الإدارة الأمريكية للشرق الأوسط، تسعى الدول العربية النفطية وغيرها بحثا عن شرعية وجود على الساحة الدولية إلى التقارب مع الصين أو روسيا.

أعتقد أن الاتجاه الصحيح لاكتساب الشرعية الدولية يجب أن يكون إلى الداخل بالعمل على تنمية المواطن، وإرساء منظومة سياسية واجتماعية وعلمية واقتصادية قادرة على رفعة الإنسان، وبالتالي المنافسة عالميا. سيفضي ذلك إلى صياغة مصالح قومية تعبر تعبيرا صادقا عما يطمح إليه المواطن، ومن ثم تلافي حروب تقوم بها الأنظمة لحماية أنفسها يذهب ضحيتها المواطنون، وتؤدي إلى سنين من التأخر ومواصلة التبعية السياسية والاقتصادية للخارج.
التعليقات (0)