قضايا وآراء

رسالة إلى أمي.. من خلف القضبان

محمد سعيد أبو الفتوح
1300x600
1300x600
أمي.. أعتذر فاقبلي مني هذا الاعتذار..

أعتذر عن مخالفتي عهدي معك بألا أكتب شيئا أو أتحدث في شيء حتى أخرج من السجن، ولكن أصبح الواقع الآن مختلفا بعد تأييد الحكم بسجني خمسة عشر عاما.

أعتذر أنني أخفقت في أن أحقق حلمك بأن أكون مهندسا ناجحا، وأن أتحمل معك مسؤولية تربية إخوتي الصغار بعد وفاة أبي.

أعتذر عن كل ما تسببت لك فيه من متاعب خلال الفترة السابقة.. سنتان ونصف تقريبا وأنت تتنقلين معي بين سجن وآخر، ولم تتخلفي عن زيارتي يوما.

أعتذر عن كل دمعة سقطت حزنا من عينيك، وكل لحظة ضعف كنت تحتاجينني لكي لأكون سندا فيها.

أمي.. أعتذر عن أشياء كثيرة لا أستطيع وصفها، ولكنها تقتلني كل يوم فما تبقى مني اليوم يعتبر بقايا إنسان حطمه الظلم.. ماذا فعلت حتى تجتمع قوى الشر كلها ضدي؟!

لماذا كلهم يصرون على تحطيمي؟! فلم أحصل على محاكمة عادلة عندما تم اتهامي بأشياء لا علاقة لي بها إلا في أوراق النيابة، وعندما تم سجني ورضيت بقضاء الله لم أحصل حتى على حقي كسجين في أن أتعلم، بعد أن رفضت الجامعة أدائي الامتحانات لثلاث سنوات متتالية، حتى الغذاء الروحي وقراءة الكتب منعت منها.. فأي شيء في هذا العالم يدعو للبقاء!! لقد أصبحت الحياة الآن أكثر صعوبة وأشد خطرا من الموت.

أحلامي كلها أصبحت تتساقط أمامي وأنا مكبل اليدين، كشجرة تتساقط أوراقها في فصل الخريف والناس يمرون عليها ولا يأبهون بها، ويعتقدون أن هذا شيء طبيعي بالنسبة لها، ولكني أظن أنها تكون في أشد حالات الحزن وأشلاؤها تتساقط، وأن الشيء الوحيد الذي يجعلها تستمر في هذه الحياة هو الأمل.

الأمل بأن الربيع سيأتي ليصلح ما أفسده الخريف، أما أنا فأصبحت أعيش في خريف دائما، لا أرى إلا المجهول ولا أستطيع أن أخرج من عالمه. أرقد الآن وسط ركام حديقة من الأحلام المتساقطة.. أحلامي وغيري من الشباب التي اختلطت حتى أصبحت تقف على قممها الغربان.

حتى الناس أصبحوا يعتقدون أن الظلم فعل طبيعي لأي إنسان يمتلك مبادئ ويحاول الدفاع عنها أو يحاول أن يخرج عن الإطار الذي يرسمه النظام، وكأن هذا هو القدر المحتوم لكل من يحاول أن يرتقي بهذه البشرية.

إن فكرة العدالة البشرية ليست موجودة من الأساس، بل هي مجرد فكرة أسطورية يروجون لها حتى لا تخرج عن الإطار المرسوم، وحتى لا يتركوا لنا المجال لنبحث عن العدالة الحقيقية، فمهما حاول البشر أن يقيموا العدل بينهم سيخفقون في كل مرة لأن ما يراه بعض الناس عدلا هو عين الظلم بالنسبة لآخرين.

فلن تستطيع أن تضع لهذا العالم صيغة معادلة واحدة للعدالة تتفق عليها البشرية، وأن ما يحدث في بعض الأ‌حيان من وجود حالات يبدو في ظاهرها العدل إنما هي مجرد استثناء، فلا يوجد غير العدل الإلهي.

لم أندم يوما على قرار اتخذته ولم أتنازل عن مبادئي، ولكني أشعر أن عالمهم هذا أصبح لا يتسع لأمثالي من بقايا البشر، كما يروننا.

أشعر الآ‌ن كأني جندي في معركة فقد سيفه ودرعه ولم يعد يملك فيها إلا جسده النحيل يتلقى الطعنات من كل جانب، فلم يعد أمامي الآن من سلاح ولا وسيلة غير ذلك الجسد الضعيف. قررت أن أبدأ في إضراب مفتوح عن الطعام، وهي ليست مجرد محاولة للانتحار كما قد يظن البعض.

بعد أن تساقطت الأحلام.. إما أن أعود شيئا جديدا لا أعرفه يستطيع أن يواجه هذا العالم بأسره، وإما أن أكون مسخا مشوها لا قيمة له.

أعتذر إليك يا أمي على كل شيء.. فقد بدأت ولن أتراجع، فلم يعد هناك بقية من خوف.


* طالب بكلية الهندسة جامعة الأزهر، محكوم عليه بخمسة عشر عاما وتم رفض النقض (قضية أحداث 6 تشرين الأول/ أكتوبر 2013)، مضرب عن الطعام بسجن ملحق وادي النطرون.



التعليقات (0)