كتاب عربي 21

هذا عسكري وذاك عسكري..

طارق أوشن
1300x600
1300x600
يقف ممثل النيابة في المحكمة "شامخا" ويسترسل في مرافعته..

ممثل النيابة: سيادة الرئيس، حضرات السادة المستشارين. القضية المطروحة أمامكم اليوم من أخطر قضايا العصر. قضية خيانة، خيانة الوطن، خيانة الأمانة. قضية إرهاب من نوع جديد، ارهاب فكري وترويج للأفكار الهدامة.

سيادة الرئيس، نحن أمام خائن أراد أن يبيع تاريخ الكفاح الوطني لهذه الأمة مقابل مبلغ من المال مستغلا في ذلك جهل وفقر شريحة كبيرة من أبناء الوطن... لذا فالنيابة تطالب بتوقيع أقصى عقوبة على المتهم وهي الإعدام شنقا ليكون عبرة لكل خائن.

كان هذا ما طالب به ممثل الادعاء في حق المواطن صابر الطيب من فيلم (عايز حقي – 2003) لمخرجه أحمد جلال.

كانت تهمة صابر الطيب أنه اطلع صدفة على الفقرتين 25 و30 من الدستور المصري وقتها اللتان تؤكدان أن لكل مواطن نصيبا في الناتج القومي وأن الملكية العامة هي ملكية الشعب.

داخل قهوة المعلم فلفل، يعقد صابر جلسة مع بعض أبناء حارته.

صابر: والله يا اخواننا، احنا المُلاّك. إذا كان المال العام ده (م.ع) نبقى احنا (م.م.ع)، ملاك المال العام.

أبو الشوق كاديلاك: طب ما الحكومة بتبيع (م.ع) ده واحنا مخدناش أي حاجة.

......

صابر: هو أنا مغلب نفسي ليه؟ مش عارف أستفيد بأملاكي أبيعها.

المعلم فلفل: تبيع إيه؟

صابر: أبيع حقي في المال العام.

المحامي: مينفعش لأن ده ملكية عامة، يعني ملك الشعب. علشان حضرتك تبيع لازم 51% من الشعب يعملوا لك توكيل.

لأجل ذلك سعى صابر للحصول على توكيلات "الشعب" للمضي قدما في طريق بيع البلد "لوكشة واحدة" بدل سياسة البيع بالتقسيط التي تنتهجها الحكومة وفق نظرية "تاتا تاتا". كُيِّفت قضية صابر أمام المحكمة، فصارت التهمة التخابر مع منظمة (م.م.ع). واسترسل ممثل النيابة بتفصيل "خيانة" الرجل للأمانة وللوطن.

اعتمادا على "التفويض" الذي يعتقد عبد الفتاح السيسي بحيازته من الشعب ذات طلب سابق لمحاربة الإرهاب، وانطلاقا من "توكيل انتخابي ساحق" في مواجهة حمدين صباحي، الذي كان يمني النفس بقيادة حشود الغاضبين في الخامس والعشرين من الجاري قبل أن يخلف الموعد ويختفى، أصبح قائد الانقلاب متصرفا أوحدا في مصر كأنها عزبة شخصية، وفي تاريخ الكفاح الوطني وكأنه مجرد أسطر على كنانيش تضاف إليها وفق الحاجة "وثائق تاريخية" تُكتشف بالصدفة في المتعلقات الشخصية "للزعماء التاريخيين" فتصبح جزر بأكملها مجرد "وديعة" يستردها المالك وقتما شاء ذلك دون حاجة للعودة لا للشعب ولا البرلمان. يكفي أن  يتكفل حفارو الأنفاق الإعلاميون والأمنيين والعسكريين ومن دار في فلكهم في الترويج لشفافية عملية "بيع" يبدو أنها تتم وفق صيغة "تاتا تاتا"، والبقية في الطريق. وليس غريبا أن نقرأ لمحللين صهاينة تبشيرهم بدولة فلسطينية على أراضي سيناء بمباركة "السيسي".

لم يحتج عبد الفتاح السيسي إلى العودة إلى الدستور. ففي زمن الدساتير التي تبنى بالنوايا الحسنة يصح لكل رئيس أن ينوي ما شاء ولو كان الأمر تخليا عن أرض هي العرض في عرف المصريين. يكفي الرجل أن يتذكر من وصايا الوالدة، رحمة الله عليها، ما يبرر فعلا يندرج في سياق أقله "خيانة الأمانة والوطن " كما عرفها ممثل الادعاء في فيلم (عايز حقي). هنا لا يفرق السيسي بين طاعة الابن لأمه في أمور ملكية خاصة، وخضوعه لبنود الدستور في ما تعلق بالملكية العامة وأمور الحكم الذي اغتصبه غصبا.

يصل أحمد سبع الليل إلى قريته بعد أن حارب "أعداء الوطن" وقتل المعتقل الكاتب رشاد عويس، الذي زين له الشيطان أنه أحدهم. يجري إلى "الغيط" حيث تقاسي والدته للحفاظ على الأرض/العرض. يتعانق الاثنان لكن الأم تتمنع قليلا.

الأم: عايزة أخدك في حضني يا ضنايا بس خايفة أوسخ لك بذلتك الميري.

يعانقها أحمد بقوة.

الأم: من يوم ما فتنا يا احمد حالنا بقا عدم. الأرض أقوى مني يا ولد. أنا مش قادرة عليها. بص شوف زرعتي يا احمد.. زرعة خايبة.

أحمد سبع الليل: ولا يهمك يامَّا. أنا اجازة عشرة أيام. لك علي الأرض ده حتبقى أحسن أرض في الجيرة.

يقلع أحمد سبع الليل بذلته الميري ويبدأ العمل في الحقل.

هذا عسكري وذاك عسكري. أحدهم قلع بذلته الميري ليساهم في زراعة الأرض وتنميتها. والآخر قلع نفس البذلة وصار رئيسا مؤتمنا على البلاد والعباد لكنه اختار أن يذكره التاريخ، بجانب جرائمه في حق المعارضين، بأنه لم يتوان في التفريط في الأرض مقابل بقائه في الحكم ولو إلى حين.

هذا شعب يعرف أن ليس له من مكان يحفظ له "كرامته" غير البلد حيث عاش وترعرع وسيموت، وتلك نخبة نفعية لا يربطها بالبلد غير ما تجنيه من وجاهة اجتماعية وجاه سلطوي وأموال. وكلما اشتد الخناق على أحدهم ف"العمرة" إلى بلدان الجوار سبيله للهروب بما امتلكه من ثروات الشعب تدليسا وسرقة ونهبا.

يجلس أبو حسن الصياد على ناصية نهر النيل. يمر صابر الطيب بجانبه متوترا. فحكى له عن التمثيلية الإذاعية التي يزف فيها الأطفال عواد لأنه باع أرضه وهي ملكيته الشخصية ولم يبعها ل"الغرباء"، قبل أن يواصل..

أبو حسن الصياد: فما بالك بقا بللي عايز يبيع وطنه. ده بقا يزفوه إزاي؟

صابر: انت أكيد من المعارضة. أكيد معملتش التوكيل.

أبو حسن الصياد: مش أنا بس ايلي معملتش التوكيل.. أجيال كتير معملتش التوكيل.. منهم حسن ابني.. حبيبي.. وحيدي ايلي استشهد في حرب 73.. كان شاب زيك كده كله أمل لكن ضحى بنفسه علشان نعيش أنا وانت أحرار.. مكنش يعرف أبدا أنه حييجي زمن عواد ويتباع فيه الوطن ودم الشهيد في مزاد.. لو بعت مش حيبقى لنا مكان فيها..

كان طبيعيا أن يثير موضوع التخلي عن جزيرتي تيران وصنافير من طرف نظام السيسي لصالح المملكة العربية السعودية ردود فعل شعبية غاضبة. وكان طبيعيا أن يصطف "نبطشية" الإعلام والتحليل الاستراتيجي للدفاع عن الخطوة تلك. لكن الذي لم يكن منتظرا هو أن يتحقق ذاك الاصطفاف الثوري بشكل ذكر كثيرين بروح 25 يناير، وأن تكون "وقاحة" الموالين لنظام السيسي بتلك الدرجة التي اختلط فيها التضليل بدرجات جبن ووضاعة لا نظير لهما.

في فيلم (عايز حقي) أرادوا أن يقدموا الشعب على شاكلة كراكيز تحركها الفاقة وتدفعها للتسليم ببيع البلد "لوكشة واحدة". فرأينا كيف نزلت النعال والأحذية على صابر الطيب، حين تراجع في آخر لحظة عن الاستمرار في عملية البيع/الخيانة وطالبهم بالبحث عن أحد غيره ليبيعها، والشعار كان : صابر الطيب يا جربوع، بيع خلّصنا من الجوع.

وفي الخامس والعشرين من شهر أبريل، خرج من الشعب من ارتضى أن يضع البيادة فوق الرأس فقد وجد في قائد الانقلاب من يقبل أن يبيع. وفي المقابل، حول النظام مصر إلى ثكنة عسكرية كبرى لمنع من رفضوا الخنوع وأصروا على إسماع أصواتهم، والهدف فسح المجال لسحرة الانقلاب للترويج لمقولة أن الشعب لم يعرف، وربما كانوا على حق، أن يحفظ المال والعرض والأرض.

الأرض - 1970، للمخرج يوسف شاهين..

عندما ثار الفلاحون في إحدى القرى المصرية عام 1933 ضد قرار السلطة بمنعهم من ري أراضيهم لفائدة أحد الاقطاعيين، تدخلت قوات الهجانة وقتها، باعتبارها قوات النظام القائم، وفرضت حظر التجوال على القرية وحولتها لما يشبه الثكنة العسكرية. في الليل توجه قائد الهجانة، الشاويش عبدالله،  إلى بيت الفلاح محمد أبو سويلم.

محمد أبو سويلم: اتفضل الشاي ايلي كنت حشربه.. تفتكر يعني الكرباج ده حيخلي الواحد ينخ؟

الشاويش عبدالله: لأ.. لكن فيه ظروف يسكت فيها البني آدم أو يموت.

محمد أبو سويلم: يبقى نموت أحسن.

 
1
التعليقات (1)
جويدة
الخميس، 28-04-2016 02:25 م
الله عليك. انا متابع كل ما تكتب هنا ولكن هذه المرة ابداعك فى المناظرة ادمع العين و القلب.. شكرا جزيلا لك