قضايا وآراء

من "إسلام الدعوة" إلى "إسلام السلطة"

محمد مالكي
1300x600
1300x600
كثيرا ما يُقال "إن السلطة تُصيبُ صاحبَها، أي ممارسَها، بالترهّل" harcèlement ، وعادة ما يُشار إلى أن السلطة تغيّر أصحابها. فهل يعني ذلك أن للسلطة منطقها، ومتطلباتها، ولوازمها التي تحوّلها إلى آلة تُكسر كل من لا يتماشى مع إيقاعها وطرق اشتغالها.. إن لهذا القول قدرا من الصحة والرجاحة، وهو ما يسهُل على المرء ملامسته في واقع الحال.

فلو أخذنا مثلا كعينة حركات "الإسلام السياسي" التي قادتها ظروف بلدانها إلى السلطة وممارسة الحكم كلياً أو جزئياً خلال العِقدين الأخيرين، وبدرجة أساسية، في خضم ما سميَ "الربيع العربي"، وفحصنا بشكل عميق التطورات التي طرأت عليها جراء عملها من داخل المؤسسات الدستورية والسياسية، لوصلنا إلى تأكيد فرضية أن "السلطة  تُصيب أصحابَها بالترهل"، وأنها تغير سلوك ممارسيها وأفكارهم من حيث يدرون أو لا يدرون. لننظر مثلا في ما آلت إليه بشكل أولي مسارات كل من حزب العدالة والتنمية" المغربي، و"حركة النهضة" في تونس، و"الإخوان المسلمين" في مصر، و"حركة مجتمع السلم" في الجزائر.

لنتذكر أن الحركات الأربع المُشار إليها أعلاه تأسست لاعتبارات دعوية، قبل أن تتحول إلى حركات سياسية بغطاءات دينية. ولنستحضر أن كل واحدة منها قادتها إلى السلطة سياقات خاصة ببلد الانتساب وجغرافية الانتماء. فحزب العدالة والتنمية المغربي مثلا شكلت "حركة التوحيد والإصلاح"، المؤسَّسة عام 1996، ذراعَه الأساسية حين الإعلان عن ميلاده عام 1997، وقبل اندفاعه في العمل السياسي بداخل المؤسسات الدستورية، وقد استمرت العلاقة التكاملية بينهما إلى حين شروعه في رسم مسافة بينه وبين الوظيفة الدَّعَوية، والتركيز على البُعد السياسي، أي النشاط الهادِف إلى حيازة السلطة وممارستها. والأمر نفسه، وإن تباينت الحيثيات، ينطبق على حركة النهضة في تونس، فقد انطلقت هي الأخرى من مقاصد دَعوية تروم تربية المواطنين على قيم الإسلام التي لاحظت تلاشيها وضمورها في المجتمع التونسي، والحالة نفسها عاشتها "حركة مجتمع السلم" في الجزائر. أما حركة "الإخوان" في مصر فجذورها أقدم من نظيراتها في بلاد المغرب، حيث تعود إلى أواخر عشرينيات القرن الماضي، حين رسم مؤسِّسُها ومُرشدها العام "حسن البنا" منذ عام 1928 أفق هذا التنظيم، الذي طمح إلى أن يكون مصريا بامتدادات دولية. 

لابد من التأكيد على أن شعارَ مجمل هذه التنظيمات حين انطلاقها كحركات دَعوية تمحور حول "أسلمة الدولة والمجتمع"، وسعى قادتُها ومن ناصروهم إلى التركيز على المباحث الأخلاقية والقيمية، وما يرتبط بها دون الخوض مباشرة في السياسة وضرورتها ولوازمها، ويجب الاعتراف أنهم أنتجوا في هذا السياق أدبيات واجتهادات منحتهم طابع التميز و"الخصوصية"، وسمحت لهم  بتكوين "مرجعية" يمكن الركون إليها في التعبير عن شؤون المجتمع وشجونه وتطلعاته. بيد أن عُمر هذا المسار سرعان ما بدأ يتراجع ليترك مكانه لأفق الاقتراب من السلطة والتوق إلى حيازتها وممارستها، ومنذئذ شرع "الإسلاميون" في رحلة الانتقال من الدَّعوة إلى السلطة.

لابد من التذكير، حين الحديث عن  مسألة الانتقال من الدعوة إلى السلطة، بقضية فكرية بالغة الأهمية في بناء فهم مشترك حول معنى الانتقال ومتطلباته، يتعلق الأمر بمنطق "الدعوة" ومنطق "السلطة"، والتمييز الجوهري واللازم بينهما. فمنطق "الدعوة"، والحالة هنا مجال الدين، مبني على "اليقينيات" و"المطلقات"، ومساحة الاختلاف فيه ضيقة إن لم نقل منعدمة، في حين يُعد منطق السلطة، أي حقل السياسة، مؤسساً على المصلحة وتنازع أصحابها، مما يعني أن الاختلاف متطلب لازِم وضروري، وإدارته لا تتحقق باليقين والوثوقية، بل بثقافة الاعتراف بالمُختَلف معه، والبحث بمعيته عن الوصول إلى المشترك، أي التراضي والتوافق.

لذلك، يلاحظ المتابِع لتطور مسارات الحركات الإسلامية، والمتأمل في سياقات انتقالها من "الدعوة" إلى السلطة أنها أقدمت بالتدريج على مراجعات فكرية وتنظيمية للتكيف مع مقتضيات الوضع الجديد. وللمتابِع أن يلحَظ أيضا أن الحركات التي عزَّ عليها القيام بهذا التغيير، إما ظلت مقصيةً وخارج أنساق العمل السياسي المؤسسي، أو فشلت في الاستمرار في السلطة كما حصل للإخوان في مصر عقب ثورة 25 كانون الثاني/يناير 2011.

لقد أتيحت للنماذج الأربعة المومإ إليها أعلاه فرصة الانتقال إلى السلطة، وإن بدرجات مختلفة، وقد لوحظ حجم التغيير الطارئ على مسارها السياسي والتنظيمي. فقد جربت "حركة مجتمع السلم" ممارسة السلطة في الجزائر بداخل المؤسسة التشريعية وفي العمل الحكومي، وخضعت بالتدريج لتغييرات تحت طائلة متطلبات السلطة ولوازمها، وقد وعت المآلات التي انتهت إليها والترهّل الذي أصابها من آلة السلطة التنفيذية المتحكّم في مفاتيحها الإستراتيجية من قبل حزب "جبهة التحرير الوطني"، قبل أن تخرج ضعيفة، ومفتقِدة لمجمل قواعدها الشعبية. أما حزب العدالة والتنمية المغرب، ومنذ مؤتمره الوطني لعام 2008، عَقدَ العزم على ولوج دواليب السلطة، وهذا ما حصل له منذ انتخابات 25 تشرين الثاني/نوفمبر 2011، وهو الآن على وشك إنهاء خمس سنوات من قيادة العمل الحكومي (2011 ـ 2016)، أما الحصيلة فليست بكل المقاييس موضوع إجماع، بل لها إيجابيات وعليها الكثير من السلبيات والتراجعات. وفي تونس، اضطرت حركة النهضة إلى البحث عن المشترك مع نظرائها من "الترويكا" المشاركة في الحكومات الانتقالية ما بعد ثورة 14 كانون الثاني/يناير 2011، وفي مصر قاد الانتقال إلى السلطة رموز الحركة الإسلامية إلى الفشل أولا والسجون ثانيا، ولا يُعرف على وجه اليقين المآلات القادمة.. إن السياسة بحسبها إدارة لتنازع المصالح تقتضي منطقاً هو بالتأكيد غير منطق الدعوة، ودون الاعتراف بهذا التمايز وتمثّله، وإعماله في الممارسة، ستظل الحركات الإسلامية معرضة للترهّل، والإضعاف، والموت السياسي البطيء. 
التعليقات (0)