كتب

إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين

إنقاذ النزعة الإنسانية
إنقاذ النزعة الإنسانية
"إنسانية الدين" تعني -كما يراها مؤلف كتاب "إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين" عبدالجبار الرفاعي- اكتشاف وظيفة الدين الأصلية في إنتاج معنى لحياة الإنسان، وهي الوظيفة التي ضاعت في غمار معارك ونزاعات تجلى فيها كل شيء سوى الأخلاق، وقيم التراحم والمحبة.

وتعني أيضا "تحويل علاقة الإنسان بربه؛ من صراع مسكون بالخوف والرعب والقلق، إلى علاقة تتكلم لغة المحبة، وإشاعة السلام بين الشعوب. وتعني استدعاء التجارب الروحية التطهيرية السامية عبر التاريخ، وإنجاز مصالحة بين المتدين ومحيطه والعصر الذي يعيش فيه، والإصغاء لإيقاع الحياة المتسارعة، وإيقاظ عقولنا، وإخراجها من حالتها السكونية".

"إنه تفسير لا يختزل الدين في المدونة الفقهية فقط، ولا يقوم بترحيله من حقله الروحي الأخلاقي إلى حقل آخر يتغلب فيه القانون على الروح، ويصبح الدين أيديولوجية سياسية صراعية".

كيف جرى التلاعب بوظيفة الدين؟

يرى الكاتب أن الصورة الأصلية للدين؛ تتمثل في الإسلام الشعبي، "هذا الإسلام الغني بالأبعاد الروحية والمعنوية والرمزية والجمالية، لكن ما جرى في تاريخنا هو ترحيل لوظيفة الدين، فأصبحت وظيفته سياسية كفاحية نضالية، وبذلك تحول إلى أيديولوجيا سياسية صراعية؛ أهدرت أبعاده الجمالية والروحية"، ومما يخطئ فيه المسلمون بحسب الكاتب؛ هو إعطاء المركزية للمرحلة المدنية في السيرة النبوية، في مقابل إقصاء أو تهميش المرحلة المكية، وهي "محاولة تمثل تكريسا لما هو تاريخي، على حساب ما هو جوهري في الدين".

نقد علي شريعتي

ويخصص عبد الجبار الرفاعي مساحة من كتابه لنقد المفكر الإيراني الشهير علي شريعتي الذي صوّر الدين على أنه "أيديولوجيا ثورية".. هذه الأدلجة أدت بشريعتي -بحسب الرفاعي- إلى تخفيض البعد المقدس للإسلام؛ إلى مستوى التاريخ، وورطته في تفسيرات ماركسية للإسلام.

ولا ينفي الرفاعي أن الدين يهدف إلى تحقيق العدالة، لكن الطريق إلى العدالة لا يمر من خلال "أدلجة" الدين التي تفسده، فـ"لقد أدت هذه القراءة بشريعتي؛ إلى إفقار الدين ميتافيزيقيا، مثلما فعلت البروتستانتية في المسيحية، وتتمثل خطورة ترحيل الدين من حقله الطبيعي في إشباع الحاجة للمقدس، وتحويله إلى أيديولوجيا؛ في أن هذه الأيديولوجيا تغدو وقودا لعجلة السلطة، وتقحم الدين في مواجهة شاملة مع الدولة والمجتمع والعلوم والمعارف والفنون والآداب، وهو ما تبلور في لافتات: البنوك الإسلامية، أسلمة المعرفة، أسلمة الأدب.." كما يرى المؤلف.

مدرسة محمد إقبال

في مقابل نقد شريعتي؛ ينحاز عبدالجبار الرفاعي إلى مدرسة الفيلسوف الهندي محمد إقبال، الذي تتبدى رؤيته في كتابه "تجديد التفكير الديني في الإسلام"، وتتميز محاولته بغناها من خلال حشد وفير من معطيات العلوم الإنسانية الحديثة، وبراعتها في توظيف تراث المتصوفة والعارفين والفلاسفة والأصوليين والفقهاء. يقول إقبال: "فالدين ليس علم الطبيعة، أو علم الكيمياء، لكن غايته الحقيقية هي تفسير ميدان من ميادين التجارب الإنسانية، هو ميدان الرياضة الدينية الذي يختلف عن ميادين العلوم السابقة"، ويخلص إقبال إلى أن "الفرق بين الدين والفلسفة؛ يكمن في أن الدين يهدف إلى اتصال بالحقيقة أقرب وأوثق، فالفلسفة نظريات، أما الدين فتجربة حية، ومشاركة، واتصال وثيق".

وشكلت أطروحة محمد إقبال وفق رأي الرفاعي؛ محاولة علمية رائدة لاسترداد المدلول الروحي للدين، وإعادة المضمون التطهري، وتحريره من المسخ والتشويه الذي تعرض له منذ القرن التاسع عشر على يد ما أسماها "البروتستانتية الإسلامية".

إسلامية المعرفة

ويتناول الكتاب مثال مشروع "إسلامية المعرفة" الذي ظهر في العقدين الأخيرين من القرن العشرين؛ بهدف صياغة النظام المعرفي الإسلامي، واكتشاف المنهجية القرآنية.

"تبرر إسلامية المعرفة فلسفتها بأن العلوم الإنسانية لا يمكن سلخها عن محيطها الحضاري الغربي، وبالتالي تصطبغ هذه العلوم بصبغة متحيزة وليست محايدة"، لكن عبدالجبار الرفاعي يرى أن هذه الدعوة لا تخلو من هجاء ونفي كل ما هو غربي، بينما يتمدد فيها مدلول المقدس فيستوعب التراث، أما محاولة تحرير المعرفة من التحيزات؛ فإنها تتورط في تحيز من نوع آخر عندما تتحول المقولات التراثية النسبية لديها إلى مقولات مطلقة.

يقول الرفاعي: "إننا لا نعثر على دراسات نقدية جادة للتراث لدى الإسلاميين، بينما تتراكم الكتابات في نقد الغرب وهجاء حضارته وقيمه وعلومه؛ دون تمييز بين وجوه الغرب الحضاري والاستعماري".

وليس من سبيل للخروج من نفق التخلف -بحسب الرفاعي- إلا بالتخلص من حالة الوجل والحساسية في التعاطي مع المعارف الراهنة، هذه الحساسية التي تتعزز في مجتمعاتنا بسبب الشعارات التعبوية والسياسية، والتباس مفاهيم التغريب، والغزو الثقافي، والتبعية الفكرية، وغيرها.

هاجس التراث

"ربما لا توجد مجتمعات بشرية مسكونة بهاجس التراث كالمجتمعات الإسلامية، فهي تعيش حنينا إلى الماضي لا حدود له، وتتعاطى معه باعتباره ناجزا مكتملا فريدا، وتحشد كل أحلامها لاسترداده كما هو، وقد أفضى حنينها للتراث إلى تعذر التمييز بين الدين بوصفه تساميا للروح، والتراث بوصفه إنتاجا بشريا، حتى أصبحت أي محاولة لمساءلة التاريخ تُنعت بالعدوان على أمجاد الأمة وماضيها المشرق".

و"يحسب أنصار التراث أن الانتماء للإسلام لا ينفك عن الاستسلام للتراث واستدعائه بكافة عناصره في حاضرنا"، غير أن الإيمان حسبما يعرفه الرفاعي "يعني بناء علاقة حيوية وفعالة مع الله، في العصر الذي يعيش فيه الإنسان".

المعنى الإنساني للإسلام

يقدم الرفاعي مفهوما إيجابيا للإسلام حسب قراءته للقرآن الكريم، فكلمة "مسلم" بالمفهوم القرآني "تعني القبول العفوي والطوعي والمتلهف، بل وحتى العاشق لكل ما تأمر به إرادة الله وتعلمنا إياه، و لا تعني إطلاقا الاستسلام لسلطة حتمية، أو الخضوع المؤدي للإكراهات والقيود، وإنما هي تلك الاندفاعة العفوية، اندفاعة الشكر والعرفان بالجميل تجاه إله رحيم".

وإن كلمة "إسلام" في القرآن -بحسب الرفاعي- ليس لها ذلك المعنى العقائدي واللاهوتي والثقافي الذي كان قد فرض نفسه على مدار تاريخ المسلمين، أما من يحسب أنه مفوض بانتهاك كرامة الإنسان، وإلزامه بمعتقد معين، أو حرمانه من حق الحياة؛ فإنه يناقض "لا إكراه في الدين"، والمعتقد "أمر جوّاني باطني، فلا يمكن فرضه بالقسر باعتباره عالم الحرية".

التفسير السلفي والتفسير الصوفي

إن التفسير السلفي للنص -وفق الرفاعي- تفسير أحادي فظ، يرفض كل اجتهاد ينزع إلى التفكير خارج مدارات ما قاله السلف الأوائل، أما الميراث الغزير للمتصوفة والعرفاء؛ فنجد فيه استلهام العناصر الروحية والإنسانية والجمالية والعقلانية في النص، حيث أدركوا أن النص القرآني إشاري المقاصد، غزير المعاني، رمزي البنية، وتخطوا القراءة الاختزالية التبسيطية وما أفضت إليه من إفقار للنص.

وبحسب الرفاعي؛ فإن القراءة السلفية التبسيطية للنص؛ تشيع في حالة التراجع الحضاري، بينما يزدهر التأويل الصوفي والفلسفي للنص في حالة النهوض الحضاري.

الخطاب السلفي وتبجيل العنف

"يتمحور خطاب الفهم السلفي على هجاء الحياة، وتمجيد الموت، ولعن المباهج وأسباب الفرح، بل مسخ الذوق الفني، وتجاهل الأبعاد الجمالية في الكون، وأن النجاة في اليوم الآخر ترتبط بالفرار من حب الحياة.. هذا المنطق في التعامل مع الحياة هو مصدر الشعور بالإحباط والفشل، وهو الذي يقود إلى العنف والرغبة في تدمير الحياة" كما يقول الرفاعي.

ويضيف أن هذه الجماعات تصر على أن العنف هو السبيل الوحيد للخلاص من الظلم في الدنيا والفوز بالفردوس في الآخرة، بينما تتجاهل الأساليب اللاعنفية في دعوات الأنبياء، وكذلك تهمل بعمد أبرز حركتي لاعنف في القرن العشرين؛ في الهند بقيادة غاندي، وجنوب إفريقيا بقيادة مانديلا.. "إن أدبيات هذه الجماعات تتكتم على مساحة شاسعة في النص؛ تتحدث عن الرأفة والعفو والغفران والرحمة".

أوهام الهوية

ينتقد الكتاب دعوات تعزيز الهوية والأصالة والخصوصية والقومية، فالهوية وفق الكاتب ليست معطى جوهريا ثابتا ونهائيا.. هذه الدعوات تجعل الآخر مصدر كل الآثام، وتساهم في تجييش قطاعات عريضة من الناشئة في معارك موهومة مع الآخر.

"إن أوهام الهوية تحجب رؤية الآخر، وتكرس الانغلاق على الذات، وتفضي افتعال صورة زائفة للذات والآخر لا توجد إلا في المخيلة".

وإن "نزعة التمركز حول الذات؛ تؤدي إلى كره الأجانب والنزعات العنصرية، إننا نتعامل كأننا في عالم لا يعيش فيه إلا الأعداء، وكأن المجتمعات الوحيدة التي تعرضت للاستعمار هي نحن، مع أن الاستعمار شمل في القرون الماضية معظم الكرة الأرضية، ولكن تحررت هذه البلاد وتجاوزت ماضيها، والتحق العديد منها بالغرب بل تجاوزه صناعيا واقتصاديا".

إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين

ينكر بعض الباحثين وجود نزعة إنسانية في الدين، بالاعتماد على ما ورد في النصوص من الأمر بالقتال، والحث على العنف، واستثمار الدين في الصراعات الدموية، ويعتقد هؤلاء الباحثون أنه لا يمكن انبثاق نزعة إنسانية تتمحور حول مركزية إلهية، لكن الرفاعي يرى أن التعرف على المنطلقات الأساسية والمقاصد الكلية للدين؛ يفصح عن الروح الإنسانية، ويشي بالوجه المطموس للدين، الذي غيبه ركام الموروث.

ويربط الكاتب بين التفسيرات القمعية للدين، والاستبداد السياسي الذي يسعى إلى تكريس نفوذه، "فهؤلاء المستبدون يعلمون أن إحياء النزعة الإنسانية في الدين، يفضح المشروعيات الزائفة التي يسوغون بها طغيانهم، وهذا يعني أنه متى تغيب الحرية تذبل النزعة الإنسانية".

ويخلص عبدالجبار الرفاعي، إلى أننا "إذا أردنا أن نجني ثمرات النزعة الإنسانية في الدين، والتخلص من التفسيرات القمعية للنصوص؛ فإن علينا أن نتجاوز بعض مكونات الإلهيات الموروثة التي تصدر عن رؤية أحادية وذهنية مغلقة، ولا تسمح باستيعاب القيم الإنسانية المنفتحة، وبناء إلهيات عقلانية مستنيرة تنفتح على الميراث المعنوي العميق للعرفاء، والتجارب الروحية المضيئة للمتصوفة، والتحرر من الصورة النمطية للإله، التي تشكلت في سياق الصراعات الدامية والفتن بين الفرق والمذاهب، والسعي لترسيخ صورة للإله تستلهم ما يتحلى به من صفاته الجمالية وأسمائه الحسنى".
التعليقات (1)
سعدي العثماني
الإثنين، 29-02-2016 09:48 م
لم يتطرق الكاتب بالطريقة الصحيحة لاخطر واهم قضية في الموضوع! !!!! واقصد بها االهامش الكبير للقسوة والعنف البشع والاستثناءي في البشاعة الذي إتاحة لنا الإسلام العظيم ضد الطغاة والاوغاد والجبابرة الجبناء. ...اي فهم لاسلامنا العظيم لا يسلم تسليماً تاما بضرورة استخدام القسوة البشعة والمتناهية البساعة صد الطغاة و الاوغاد وجلاوزتهم الجبناء يكون فهما مغلوطا وبه تدليس كبير