قضايا وآراء

محمد القيق..حرا أو شهيدا؟

أسماء بلحاج حسن
1300x600
1300x600
يقول رجب إسماعيل بطل رواية شرق المتوسط للروائي عبد الرحمن منيف إن "الإنسان لا يمكنه كتابة كل شيء، فعذاب الكلمة أقسى من أن يحتمله إنسان بمفرده" والكلمة على تواضعها كانت المنفى دائما في زمن القتال عن الهوية و الملجأ من عذاب الذات و المنجى من محاولات قتل الذاكرة و آخرُ الأسلحة.. التي ربما لنْ تكونَ أقواها، لكنها مع ذلك سلاح الذين يريدونَ أن يفعلوا شيئاً!. كلمة تخترق الصمت المطبق و الليل المسكون بألف غصة وآه. تتجاوز حدود الزمن و المكان و تدمر بكل جرأة تعاليم التاريخ و الجغرافيا لتتوحد المأساة و تتجلى في أعمق صورها. 

وربما هكذا كانت الكلمة في رواية شرق المتوسط خادمة لتيمة السجن التي اشتهر بها كثيرا عبد الرحمان منيف..هو الروائي و الناقد الذي تلقفته المنافي مثل كرةٍ من سجنٍ لآخر، ومن غرفةٍ لأخرى فجاءت كتاباته مثقلة بآلام التعذيب البشعة وبعذاب الانتظار بين أربعة جدران وبمرارة الذل حين يكون ممزوجا بالقهر والظلم. يحاول الكاتب نسج عالم يتقاطع فيه الوطن و الإنسان، الأرض و الكرامة، الإرادة الفولاذية وسوط الجلاد. وهنا بالتحديد يقاسم منيف الفلسطينيين مأساتهم لذا "فلا غرابة إن كان المنفي منيف فلسطينيا آخر عاش مأساة الفلسطينيين وتعاطف مع قضيتهم مدركا أن مصائبهم لا تنفصل عن أقدار العالم العربي".

إن تجربة السجن هي تجربة معقدة وفي فلسطين تتضاعف المعاناة و تتضاعف معها الإرادة معتصمة بصمود الروح في مواجهة الاحتلال الذي لا يتورع عن أي محاولة لإضعاف الفلسطيني انطلاقا من إخماد كل نفس حر مرورا بتضييق الخناق عليه ووصولا إلى طمس التاريخ وتزويره، لأن الاحتلال يدرك جيدا أنه ورغم ترسانته العسكرية يظل ضعيفا أمام  قوة الإيمان الممزوجة بالصبر. 

في السجن تتواتر صور متعددة للمواطن الفلسطيني المعذب المضطهد، الذي يواجه شتى أنواع التنكيل والإهانة لكرامته الإنسانية. و قد شيدت سلطات الاحتلال الإسرائيلي سجونا ومعتقلات كثيرة معلومة وغير معلومة مثل نفحة والمجدل وبئر السبع والنقب، مجدو، عوفر وسجن الرملة. وهي جميعا تفتقر للحد الأدنى من شروط الحياة الآدمية حيث يعيش الأسرى في تلك السجون معاناة إنسانية حقيقية بكل معنى الكلمة. 

إنشائي هنا ربما لا يفي بالغرض.. فلنجرب لغة الأرقام علها تكون أبلغ في نقل الصورة حيث  تظهر الإحصائيات التي نشرتها وزارة الأسرى و المحررين الفلسطينيين أن الكيان الصهيوني اعتقل منذ عام 1967م مابين نساء وأطفال وشبان وسياسيين أكثر من 750 ألف فلسطيني. و يبلغ عدد الأسرى في سجون الاحتلال بحسب إحصائية نشرتها مؤسسة الضمير لرعاية الأسير  في مطلع العام 4653 أسيرا منهم 7 أسيرات و 308 أسير إداري و 218 طفل و 700 معتقل إدراي. 

وتعرف منظمات حقوقية تعنى بشؤون الأسرى، الاعتقال الإداري الذي تستخدمه إسرائيل بحق الأسرى الفلسطينيين، بأنه اعتقال سلطات الاحتلال شخصا ما بأمر من القادة العسكريين للمناطق المحتلة وبتوصية من المخابرات بعد جمع مواد تصنف بأنها "سرية". ويعود نظام الاعتقال الإداري إلى عهد نظام الطوارئ الذي شرعنه الانتداب البريطاني عام 1945م، وقد أصدر القضاء الصهيوني أكثر من 20 ألف أمر إداري بحق فلسطينيين منذ بداية انتفاضة الأقصى الثانية. 

وتتنوع ألوان التعذيب والإذلال وتتقاطع الإنتهاكات لتعكس صورة وحشية غاية في الدمامة لمحتل يضرب كل لحظة القوانين الدولية و المواثيق الإنسانية عرض الحائط: ضرب و إهانة و تعذيب جسدي و نفسي و جنسي و عزل انفرادي و جولات تحقيق لا تنتهي و تعسف وقتل وتخريب و عنف السلاسل الحديدية و إذلال الإسطبل و غرف التوقيف. زد على هذه الصور الإرهابية صورا أخرى، كشدّ الوثاق ووضع التراب على الفم و إسرح بمخيلتك علها تزودك بأبشع ما اخترعه الإنسان لتعذيب غيره و ستعود لك خائبة عاجزة مصابة بالغثيان. 

كيف لا و المحكمة العليا الإسرائيلية لجهاز الشاباك وأجهزة الأمن الإسرائيلية تسمح بممارسة التعذيب بحق معتقلين تصفهم إسرائيل بالقنبلة الموقوتة، أي تتذرع بأن التعذيب قد يفضي إلى انتزاع معلومات تؤدي إلى حماية أرواح إسرائيليين، حسب منظمات فلسطينية ومختصين. و يصل عدد الشهداء الفلسطينيين الذين قضوا تحت التعذيب في سجون الاحتلال إلى 71، يضاف إليهم 132 شهيدا قضوا نتيجة الإهمال الطبي وإطلاق النار المباشر عليهم داخل السجون وخلال اعتقالهم، وذلك منذ الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية عام 1967. 

منذ ذلك الحين و الكلمة الفلسطينية تحمل سيلا من المجاز الموجع و القوي في الآن ذاته. "شدوا وثاقي، وامنعوا عني الدفاتر والسجائر، وضعوا التراب على فمي، فالشعر دم القلب، ملح الخبز، ماء العين يكتب بالأظافرِ، والمحاجرِ والخناجرْ، سأقولها في غرفة التوقيفِ، في الحمام في الاسطبلِ، تحت السوط تحت القيدِ، في عنف السلاسلْ، مليون عصفور على أغصان قلبي، يخلق اللحن المقاتلْ" هكذا قال محمود درويش و هكذا تردد آلاف القلوب و الأفواه في صمت مدجج بالغضب و الثورة. 

لم يكن السجن على قسوته إلا دافعا يؤجج نار المقاومة و يعزز عنفوان الصمود. و من السجن من تلك الزنزانة المظلمة  ومن بريق العيون التي تتوقد خلف القضبان تفتقت مواهب و تفجرت طاقات و لم يعرف اليأس طريقا لتلك القلوب التي أثبت أن ’’الإنسان إرادة قبل كل شيء”. و ارتفعت الأصوات مرات كثيرة تتحدى همجية الاحتلال بأكثر الوسائل نبلا تجسدت في معارك الأمعاء الخاوية و هي عبارة عن إضراب عن الطعام بشكل فردي أو جماعي يلجأ إليه الأسرى الفلسطينيون  لمقاومة الإحتلال.

ماء وملح كان الزاد و خير الزاد الإيمان والصبر في معركة طويلة امتدت على محطات عديدة أولها إضراب سجن الرملة سنة 1969 مرورا بإضراب الأسيرات سنة 1970 و إضراب سجن نفحة التاريخي سنة 1980 الذي استمر 32 يوما وصولا إلى أم المعارك في إضراب 1992 الذي حققت من خلاله الحركة الأسيرة مكاسب عدة و دعما جماهيريا كبيرا. و إضرابات سنوات 2001 و 2004 و 2011 و 2014 حيث خاض 120 معتقلا إداريا إضرابا مفتوحا عن الطعام، احتجاجا على استمرار اعتقالهم إداريا دون تهمة أو محاكمة. و مازال الصوت حاضرا بقوة يقهر الجلاد وينتصر عليه. إنه صوت الصحفي محمد القيق

الأسير الصحفي محمد القيق الذي يبلغ يومه 78 في إضراب جوع انطلق 25 تشرين ثاني/ نوفمبر 2015 على خلفية اعتقاله من قبل سلطات الإحتلال عقب دهم منزله في بلدة أبو قش، شمالي رام الله، بتاريخ 21 تشرين ثاني/ نوفمبر 2015، وتم تحويله للاعتقال الإداري مدة 6 أشهر. وشرع القيق في إضرابه المفتوح عن الطعام، احتجاجًا على طريقة التعامل معه، واعتقاله إداريًا، وتعريضه للتعذيب وتهديده باعتقاله لفترات طويلة داخل سجون الاحتلال، وهو يحتجز حاليًا في مستشفى "العفولة الإسرائيلي". 

قضية القيق ليست قضية شخصية تتعلق به وحده. إنها قضية الكلمة الحرة التي لا تساوم و لا تستقيل ولا ترضخ للمغريات و لا تستسلم للشهوات. إنها المقاومة الحقيقية الصادقة حين تحتل حيزا واسعا في نفس الإنسان لا بالمعنى الاستهلاكي اليومي، بل بمعنى البشر الذين يصنعون تاريخهم. ولسان حال محمد يقول: "سأعطيكم جسدي، أما إرادتي فقد تعلمت في رحلة الظلمة كيف أجدها مرة اخرى".

وبقطع النظر عن النتيجة فإن محمد القيق أصبح حرا في اللحظة التي تجاوز فيها عدوه و إن تمكنوا من جسده فإن روحه أسمى من أن يصلوها. وهو بذلك يقدم درسا لمن تمترس خلف دواليب السياسة فأضاع البوصلة وغرق في وحل المفاوضات و التنازلات. وهو بذلك أقرب إلى الشارع الذي لا يهدأ  ينبض ثورة و انتفاضة. محمد القيق هو الآخر شكل من أشكال هذا البقاء النوعي و الإصرار على الحياة الذي يميز الفلسطيني. 
التعليقات (1)
شيماء الحداد
الأحد، 14-02-2016 12:02 ص
رائعة دائما اسماء دمت مبدعة دمت حرة