كتاب عربي 21

صمود ثقافة الاستبداد

محمد هنيد
1300x600
1300x600
إنّ الفوضى التي تكتسح المشهد العربي لم تكن بسبب الثورات المضادة وما خلفته من دمار لحق بالثورات الوليدة وبالمنجز الثوري جملة وتفصيلا. فبشاعة المشهد الذي نراه اليوم في سوريا اليوم حيث يباد شعب بكامله من أجل أن تبقى العائلة الطائفية حارسة لمصالح الإمبراطوريات الإقليمية إنما تمثل جزءا من قدرة الاستبداد العربي في شكله الطائفي العائلي على إنهاء كامل النسيج الاجتماعي للدولة وتهجير سكانها والقضاء نهائيا على البنية التحتية. 

لكن بقطع النظر عن توحش الجزء الأمني والعسكري المسلح في البناء الاستبدادي فإن هناك جزءا وظيفيا آخر داخل المكوّن الاستبدادي لا يقل خطرا عن الأول وهو ثقافة الاستبداد أو وعي الاستبداد.

نقصد بثقافة الاستبداد أو وعي الاستبداد مجموع السلوكات وردود الأفعال الفردية والجماعية التي أنشأها الاستبداد أو أفرزها لتكوّن فضاءه الرمزي وتحدّد خصائصه الفارقة في فترة تاريخية معينة.

لقد نجحت الثورات العربية الأخيرة في إسقاط عدد من أشرس الأنظمة الاستبدادية العربية لكنها لم تنجح عبر المسار الانتقالي في بلوغ ثقافة الاستبداد والبدء في تفكيكها لأنها ثقافة لا تسقط بسقوطه بل إنها في كثير من الحالات تمثل الحاضنة الرئيسية لإعادة النظام من جديد. 

إن صمود ثقافة الاستبداد وتجذرها عميقا في المجتمع والدولة وتحكمها في مفاصل الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية سواء عبر السلطة السياسية أو عبر الخطاب الإعلامي خاصة هو الذي شكل الحزام الأساسي الذي امتص الرجة الثورية الأولى ومنعها من التمدد. 

الاستبداد لا يقتصر إذن على نظام الحكم السياسي وعلى كل تطبيقاته الاجتماعية والاقتصادية خاصة بل يتمثل أبرز ما يتمثل في الأشكال الثقافية والرمزية المعبرة عنه. هاته الأشكال تتجاوز فضاءات الأيديولوجيا السياسية التي تصاحب النظام السياسي إذا كان مرتكزا عليها بشكل عقائدي قوميا كان أو يساريا أو دينيا أو حتى ليبراليا لتكتسح كامل الطيف الرمزي الذي به يعبر النظام القمعي والشمولي عن نفسه. إنها تتمدد بدء من المناهج التعليمية مرورا بالفضاء الرمزي والثقافي المتجسد في كل أنواع الفنون والتعبيرات الثقافية وصولا إلى الإعلام وإلي التعبيرات الدينية المختلفة. 

فخلال أكثر من نصف قرن وهي الفترة التي حكمت فيها أهم الأنظمة الاستبدادية العسكرية أو شبه العسكرية الفضاء العربي فرَض نظام الحكم الجديد، مدعوما بالقوى الاستعمارية التي سمحت له بتسلم السلطة في دول عربية كثيرة كتونس والجزائر ومصر وسوريا وليبيا... تصورا للعالم يصب رأسا في هدف واحد وحيد، وهو بقاؤه في السلطة. 

هذا التصور يقوم على ركائز أساسية لم يكن النظام الاستبدادي العربي يملك من الإمكانيات ما يمكّنه من أن يصوغها بنفسه بل سهلت له القوى الخارجية حسب مبدأ تقاطع المصالح بناء هذه التصورات. 
في تونس مثلا يمثل مشروع "تجفيف الينابيع" الذي دشنه الرئيس الأول "الحبيب بورقيبة" 1956 1987 وكرسه خلفه "بن علي" 1987 2011 أحد الأسس التي قامت عليها ثقافة الاستبداد في تونس. قس على ذلك ثقافة اللجان الثورية التي صنعت صورة الزعيم في ليبيا وثقافة حزب البعث التي كرست هيمنة الطائفة العلوية في سوريا أو ثورات العسكر وانتصاراتهم المزيفة في مصر...

فرغم الخصائص الذاتية التي تميز المكون الثقافي لكل تجربة من التجارب السابقة فإنها تحوم حول مكوّن أساسي يتمثل في تكريس صورة الزعيم وتفعيل مبدأ الطاعة العمياء. حيث تميزت التجربة التونسية مثلا بمحاربة القيم العربية الإسلامية وبتعريض المجتمع إلى واحدة من أشرس الحملات التغريبية التي لم تنجح رغم شراستها في القضاء على العمق المحافظ للمجتمع التونسي لكنها اتجهت في شقها الآخر إلى تمجيد صورة الزعيم أو "المجاهد الأكبر" كما يحلو له أن يُسمّى وطحن كل أشكال المعارضة أو المنافسة على الحكم. 

صورة الزعيم الأوحد في ليبيا الذي كدّس الألقاب والصفات إلى أن أصبح "ملك ملوك إفريقيا" لم تخرج عن هذا الإطار رغم سعيها إلى عدم التصادم مع طابع المحافظ الذي يميز المجتمع الليبي حتى لا يخسر النظام قاعدته القبلية. كرس حزب البعث السوري نفس الثقافة المقنعة بالعروبة وبالفكرة القومية التي استعملها القذافي لينتهي إلى شعار "الأسد إلى الأبد" أو "الأسد أو نحرق البلد"، لكن كلا النظامين كرس ثقافة الخوف والإرهاب الاستخباراتي والبوليسي الذي كان قادرا على ارتكاب أفظع الجرائم في حق المعارضين والمخالفين كمذبحة سجن "أبو سليم" أو مذبحة "حماه ". 

لكن تقديس الفرد لم يكن في النهاية سوى القناع الذي يخفي عاملين أساسيين مدّدتا فعلا في عمر النظام: أولهما شبكة المصالح الكثيفة التي تحيط بالحاكم الاستبدادي وهي تخص الطبقات المتنفذة في الدولة والحكم. أما العامل الثاني فيتجلى في انتشار ثقافة الصمت والخوف التي تميز سلوك الطبقات المتوسطة والفقيرة لهشاشة وضعها الاقتصادي والمادي وتميزها بانعدام الوعي السياسي الذي يحررها من أغلال الخوف. 

لقد نجح ربيع الثورات العربية في دك الحاجز الثاني وهو حاجز الخوف النفسي بأن أصبحت الجماهير لا تخشى قمع الحاكم فحتى الوضع المصري الذي يبدو ساكنا إنما هو ينذر في الحقيقة بما قبل عاصفة هوجاء لن تتأخر كثيرا. أما الحاجز الثاني متمثلا في الطبقات المستفيدة من النظام الاستبدادي فلا يمكن تفكيكها إلا بتفعيل الآليات القانونية وتطهير النظام القضائي بالشكل الذي ينسف أسسا مركزية من أسس ثقافة الاستبداد.
التعليقات (1)
حسام عبد الرب
السبت، 13-02-2016 03:43 م
جميل جدا