قضايا وآراء

صبرا شعب مصر وإن تنصروا الله ينصركم

محمود عبد الله عاكف
1300x600
1300x600
يُعتبر الشعب المصري من أقدم الشعوب البشرية، بل قد يكون هو الأقدم بين تلك الشعوب التي تعيش على وجه الأرض، وتتراكم خبراته منذ أكثر من 5300 عام منذ وحد الملك مينا القطرين؛ حيث يعتبر ذلك بداية التأريخ للحضارة المصرية. ولكن يقدر البعض وبناء على الاكتشافات الأثرية أن الشعب المصري يمتد وجوده إلى أكثر من عشرة آلاف سنة، منذ العصر الحجري. كما نجد أن الشعب المصري قد عاش فترات ليست قصيرة تحت درجات متفاوتة من الظلم والقهر؛ بداية من فرض الضرائب الظالمة إلى التعذيب والقتل وكل صنوف الاستبداد. بالطبع كانت هناك فترات أخرى عاشها الشعب المصري، من أَمن مطمئن ويحيا حياة كريمة، ولكنها للأسف لم تدُم طويلا. 

ويمكن القول إن الخبرات التي تجمعت في العقل الجمعي للشعب المصري طوال هذه القرون، لم تتوفر لشعب آخر؛ وهذا ما جعل الشعب المصري -في تقديري- وعن معايشة مع شعوب أخرى كثيره، لايزال سليم الفطرة، ومن أكثر شعوب الأرض ذكاء. وتظهر هذه الخبرات المتراكمه في لحظات فارقة في حياة هذا الشعب؛ بحيث إنه يبهر العالم خلالها. ومن أكثر المقولات تعبيرا لهذا المعنى وتصف الشعب المصري، ما نقل عن  الجنرال برنارد مونتجومري قائد القوات البريطانيه في الشرق الأوسط  خلال الحرب العالميه الثانية. الذي وصف الشعب المصري بأنه مثل الرمال عندما تطأه بقدميك وتضغط عليه، فإنه يتحملك ويصبر عليك، بل إنه ينخفض أسفل قدميك أكثر وأكثر حتى تهب العاصفة، وعندها يعميك ويجعلك لا ترى ما حولك. بمعنى أن الشعب المصري صبور ولكن حينما تحين ساعة التغير، وتقوم العاصفة – وليس مجرد هبوب رياح - يتغير بشكل لم يكن متوقعا، وتتحول حالته من السكون والاستكانة إلى الحركة والاستمرار في الحركة؛ للمطالبة بحقوقه وكرامته.  

ويستغل الحكام المستبدون هذه الخاصية في الشعب المصري؛ فإنهم يضغطون عليه بقوة وفي بعض الأحيان بقسوة، وهم يعلمون أنه سوف يتحمل ويصبر ويبدو لهم أنه كالرمال الساكنة، التي لن تتحرك ويُهيئ ‎لهم طغيانهم أن العاصفة لن تأتي أبدا ولن تقوم. وفي بعض الأحيان يتصورون أن حكم مصر الساكنة، قد دانت لهم ولذريتهم من بعدهم. والسؤال الذي كان دائما ما يطرح نفسه، هو متى تقوم العاصفة وخصوصا عندما يزداد القهر بالشعب المصري؟ ويتحول السؤال من متى إلى كيف تقوم العاصفة؟ ويتم البحث والسؤال عن ما هي العوامل التي تساعد على قيام العاصفة؟ وهل هناك خطوات محددة تؤدي إلى قيام العاصفة؟ وما هو دور الشعب والأفراد في التحضير للعاصفة ؟ وغيرها من الأسئلة التي تدور في الفلك نفسه. 

ونظرة على تاريخ الشعب المصري القديم والحديث، نجد العديد من الهبات التي قام بها هذا الشعب   وصلت بعضها إلى درجة العاصفة وتغير الشعب فعلا، وتحرك بالشكل الذي استطاع أن يحقق الحياة الكريمة الحرة. وبعضها لم يتعد كونها هبات محدودة أو تعبير عن الغليان والضغط المتراكم، ولم تؤت الثمار المرجوة. وقد يُخدع البعض عند تقدير الأحداث ويعتقد في بعض الحالات أن ما حدث هو العاصفة، وستحقق التغير المطلوب، ثم يتضح الأمر بعد ذلك أنها كانت حالات من قبيل الهبوب المحدود للرياح.

وهنا أتوقف أمام مشهدين وبعض اللقطات من تاريخ الشعب المصري. المشهد الأول في قصة فرعون موسى عندما ذكر القرآن الكريم أن فرعون استخف قومه فأطاعوه، والسبب أنهم كانوا فاسقين وذلك كما في سورة الزخرف، مع العلم أن العوامل التي كان من الممكن أن تحدث العاصفة والتغير، كانت قوية. وكما ذكر مؤرخو تلك الفترة، فإن الإنسان المصري وأغلبهم كانوا من الفلاحين لا يمتلكون بالكاد أكثر من قوت يومهم. وفي الوقت الذي كان فيه الفلاح يجلد بالسياط إذا أخفى قدرا من المحصول لطعامه، فإن الفرعون وآله كانوا يتجملون بالحلي في أبهى زينتها ويصحبونها معهم إلى قبورهم.  

في المشهد الثاني وبعد مرور أكثر من ألفي عام، وبعد زوال حكم الفراعنة والبيزنطين والرومان، وجاء حكم العرب المسلمين، وهو مشهد مطالبة المصري القبطي من أمير المؤمنين القصاص لابنه من ابن والي مصر . القصة كما نعلمها مذكورة في كتاب "الولاية على البلدان في عصر الخلفاء الراشدين"، وموجزها: أن أحد أبناء عمرو بن العاص ، عندما كان واليا على مصر في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، اشترك مع غلام من الأقباط في سباق للخيول، فسبقه القبطي فضرب ابن الأمير الغلام القبطي، فقام والد الغلام القبطي بالسفر يصحبة ابنه إلى المدينة المنورة، فلما أتى أمير المؤمنين، بَيَّن له ما وقع، فكتب أمير المؤمنين إلى عمرو بن العاص يأمره بالحضور للمدينة، وكلنا يعلم القصة، وفي نهايتها وجه أمير المؤمنين كلمات خالدة إلى عمرو بن العاص قائلا: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟.

لطالما يتم الاستدلال بهذه القصة في إظهار عدل المسلمين في عهد الخلافة الراشدة. لكن إذا نظرنا إليها من جانب آخر، وهو موقف المصري القبطي ما الذي جعله يتحمل المشاق والجهد ويغامر بالسفر هو وابنه من مصر إلى المدينة المنورة؟ وهي كانت بالقطع - في تلك الأيام - رحلة شاقة وهو لا يعلم نتيجة هذه الرحلة، وكان من الممكن أن يُقتل هو وابنه أو يسجن أو يعذب، أو غير ذلك من أساليب القهر.  ومع ذلك قرر السفر وتكبد تلك المعاناة وقيامه بهذه المخاظرة لا لشيء إلا لمطالبته بالعدل وللحصول على حقه وحق ابنه. هذا الإنسان المصري كان يعيش الفقر والقهر والإذلال الديني منذ سنوات قليلة، تحت حكم الرومان وكانوا  يَسومونه العذاب بأشكال مختلفة، ومع ذلك لم يتحرك بالدرجة الكافية للتغير. 

وفي محاولة لفهم مبررات التغير الذي طرأ على الشعب المصري، حتى إن التغير وصل لدرجة أن المصريين الأقباط ساعدوا المسلمين العرب عام 25 هجرية في مواجهة الرومان المسيحيين عندما أعاد  الروم احتلال الاسكندرية بعد الفتح الإسلامي بعدة سنوات. فعلينا أن نتسأل هل كان عدل الولاة المسلمين في مصر هو السبب في هذا التغير؟ أم إن تحسن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية واختفاء القهر الروماني هو السبب في التغير؟ أم إن إطلاق الحرية الدينية للأقباط والشعب المصري كافة، وتعهد الوالي عمر بن العاص لهم بحرية التعبد وبناء دور العبادة. كما يذكر مؤرخو تلك الفترة أن عمر بن العاص قد أعاد البطريق بنيامين لمكانته الدينية، التي كان الرومان قد عزلوه ونفوه لأكثر من عشر سنوات لاختلافه مذهبيا عنهم . فهل احترام حرية العقيدة والسماح للقيادات الدينية بالحركة داخل الشعب القبطي، وبالتالي زيادة إيمانيات هذا الشعب هو سبب هذا التغير؟

يمكن القول إن أسباب التغير هي كل هذه المبررات مجتمعة، ولكن بنسب وأوزان مختلفة. ولكن إذا جمعنا المشهدين معا مشهذ فرعون موسى ومشهد القبطي المصري المٌطالب بحقه، نرجح أن الإيمان وزيادة قوته في قلوب المصريين، هو من الأسباب الرئيسية لحدوث هذا التغير؛ لأن العامل الذي تغير بين المشهدين بوضوح هو عامل الإيمان وزيادته في حالة القبطي، وفسق وفساد قوم فرعون في الحالة الأولى. ومما يؤيد هذا الترجيح نتوقف أمام لقطة غزو جحافل التتار للأمة الإسلامية وانهيار أقطارها الواحد تلو الآخر أمامهم، وكانت مصر هي المحطة التالية، وكان المماليك يحكمونها ويشيعون الفساد والظلم، وتقدم الإمام العز بن عبدالسلام وقاد صحوة جديدة، وتغير الشعب وانتصر في عين جالوت. 

وننتقل إلى لقطة من التاريخ الحديث مع الحمله الفرنسية على مصر تعزز  هذا الترجيح، عندما تحرك الشعب المصري في مواجهة أكبر قوتين في العالم؛ إنجلترا وفرنسا وصدهما وردهما. ويٌرجع المؤرخون السبب في ذلك إلى الصحوة الإسلامية التي حدثت في ذلك الوقت، والتفاف الشعب حول علماء الأزهر المخلصين وعلى رأسهم الشيخ عمر مكرم  والشيخ عبدالله الشرقاوي شيخ الأزهر وغيرهما.

وإذا انتقلنا إلى الواقع اليوم، فنجد أن الشعب لازال يتعرض للظلم والقهر، وأنه لم ينل حريته المنشودة؛ لأنه لم يتغير بالدرجه الكافيه ولم تتحول هبة الرياح التي مرت به منذ أربعة أعوام إلى عاصفة حقيقية؛وذلك لعدة أسباب أهمها أن الصلة بالله وتحقيق ميزان الإيمان لم يكن الهدف بالدرجة الكافية وسط جموع الشعب. كما أن الفئة من هذه الجموع التي كانت تسير على هذا النهج وتدعو إليه لم تستمر في نصر الله بالشكل المطلوب، والعمل على زيادة إيمانيات المجتمع وتغيره، من أجل تثبيت الأقدام. بالإضافه إلى أن جزءا كبيرا من الشعب لايزال لم ير الباطل واضحا جليا. كما أننا نجد أن المستبد الحاكم  يشيع الفساد والفسق في المجتمع، ويخلط المفاهيم بين عموم الناس بحجة تغير الخطاب الديني، ليبتعدوا أكثر وأكثر عن الإيمان، حتى يسهٌل إخضاعهم وقيادتهم. ويستغل في ذلك بعض علماء السلطان سواء من المسلمين أو الأقباط.

إن المحنة والأزمة التي يعيشها أبناء الشعب المصري الآن ليست سياسية فقط، بل متعددة الجوانب. وبناء على ذلك قد تحدث هبات في بعض الجوانب وقد يحدث  تحرك لبعض البراكين الملتهبه لتنفيس بعض الضغوط. وقد يؤدي هذا إلى سقوط الانقلاب غدا أو سقوطه بعد عام أو أكثر؛ لأنه بالتأكيد سينهار بإذن الله، ولكن متى فهذا في علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله. ولكن التغير الحقيقي المطلوب قد يحتاج بعض الوقت. وهذه دعوة لبذل المزيد من الجهد لتحقيق هذا التغير؛ بمعنى أننا بحاجة إلى جهود كثيرة متوازية،على المستويات كافة. ولكن بداية علينا بالصبر والثبات، فالصبر والثبات ومن بعدهما التقوى لأنها تحفظ من ضرر الكيد، كما أنهم الزاد الأساسي في هذه المرحلة. والصبر المطلوب هو الصبر الجميل وليس الصبر المتذمر الناقم؛ لأن الصبر الجميل هو الذي ينير البصيرة ويجلى الغشاوة عن الأبصار، ويزيد الوعي  بما يحدث، كما أنه هو الصبر الذي يستعين بالله ويزيد الصلة به ويساعد على التقوى، وبالتالي يزداد الإيمان في القلوب، وإذا زاد الإيمان فسوف يبدأ التغيير وتظهر ثمراته في تحقيق الوحدة بين الفرقاء، وفي تقديم كل فرد المصلحة العامة على مصلحته الخاصة، وغير ذلك من مظاهر يجب أن نبني عليها. وإذا وجد الإيمان ووقر في القلب، فيجب أن يصدقه العمل، والعمل المطلوب في هذه المرحلة هو العمل على إعادة بناء المجتمع، بما يمكنه من قيادة الدولة وتوجيهها، وليس العكس، وهذه هي المهمة الثانية.  

والمهمتان التي يجب القيام بهما ليست بالمهام السهلة أو الهينة، كما أنها مهام ليست قصيرة المدى، ولكنهما من المهمات الفاعلة التي تؤدي إلى العاصفة والتغير الطويل الدائم. وقد تكون المهمة طويلة المدى، ولكنها في الوقت نفسه مثمرة على المدى القصير، ويمكن إدراك أولى مراحل نجاحها في القريب، وهذا نمط المهام المطالبين بها. ولكل مهمة - سواء الأولى أو الثانية - أدوات وآليات تعمل على تحقيقها، يجب الأخذ بها والإبداع فيها. وأكرر أننا يجب ألا نُغتر بما يمكن أن يحدث لامتصاص الغضب المتزايد، سواء تم ذلك من خلال تغير شخص المستبد، أو تعديل في مسار الاستبداد، أو إشاعة قرب الانتهاء من مرحلة الاستبداد وانهياره.  ولنضع نُصب أعيننا الأهداف والمهام الأساسية التي نسعى لتحقيقها والاستعانة بالصبر والثبات والتقوى، والعمل على نصر الله سبحانه وتعالى في أنفسنا وفيمن حولنا، حتى نتغير التغير المنشود وينصرنا الله. كما يجب الاستمرار في نصر المولى عز وجل حتى يثبت الأقدام: " إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ". والعمل على تغير المجتمع  وأن يستمر هذا التغير في الشعب المصري بما يؤهله للحياة الحرة الكريمة، التي نسعى جميعا إلى تحقيقها، وأن نكون نموذجا للعالم أجمع بإذن الله تعالى. والله ولي التوفيق.

* الكاتب هو مدير مركز الدراسات الحضارية.
التعليقات (1)
محمدمروان
السبت، 26-12-2015 12:23 ص
ممصر وبس