كتاب عربي 21

التصحيح والكُتّاب غير المصحصحين

جعفر عباس
1300x600
1300x600
يوم الخميس الموافق 19 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري عرضت العديد من القنوات الفضائية شريطا مصورا أعدته وزارة الداخلية المصرية لطوابير من الجنود والمركبات المناط بها تأمين الانتخابات البرلمانية التي بدأت الأحد الماضي، وفي واجهة حاملة جنود أنيقة تصدرت الموكب، كانت هناك لافتة طويلة وعريضة من القماش وقد كُتب عليها بخط رقعة جميل "نحن فداكي يا مصر".

فداكي على وزن "كاكي" الذي هو الزي العسكري، وهكذا نالت الكسرة ترقية، وصارت حرفا ذا شخصية اعتبارية هو الياء، ولابد أن هذه اللافتة خضعت للتمحيص والموافقة كما تقتضي التراتبية العسكرية.

مصر التي ما من دولة عربية، إلا واستعانت بشبابها وشيوخها لتدريس العربية، فدرس على أيديهم مئات الآلاف، الذين تولى بعضهم تدريس اللغة "على أصولها" لشباب بلدانهم، مصر التي كان من يحمل فيها لقب درعمي ينال ثقة مستمعيه وقرائه لأن اللقب شهادة بأنه خريج "دار العلوم"، التي لم يكن الدارس فيها ينال البراءة، إلا عن استحقاق وجدارة، مصر تلك صرت تسمع فيها "نحنو شَبابكي فداكي".

صديقي الدكتور عبد السلام البسيوني، فلاح مصري فصيح، وداعية إسلامي، يتهمه الليبراليون بأنه "ظلامي"، ويتهمه المتشددون الإسلاميون بأنه ليبرالي، وهو لا ينكر أنه أصولي، ولكنه ليس متأكدا من "شبهة" الليبرالية، مع أنه ما من معرض للفنون التشكيلية – مثلا- إلا وجدته حاضرا، يتفقد اللوحات بعين ناقدة ومستمتعة.

وتربطه علاقات صداقة حميمة مع مسرحيين ورسامين وكتاب وصحفيين، لا يتفقون معه فكريا، وأذكر مرة أنني سألته: يا شيخ عبد السلام، الموسيقى حلال أم حرام؟ فكان رده: مش حرام بس ما تقولش لحد إني قلت كدا (وهأنذا ما قلتش لحد إنه قال كدا).

وكلما التقيت بالشيخ البسيوني قلت له: سبحان الذي أسرى بعبده من زفتا إلى سايبريا، وزفتا هي مسقط رأسه في مصر، في حين أن سايبيريا هي عالم "السايبر" الإسفيري، حيث جمهوريات غوغل ويوتيوب وفيسبوك، فقد كان الرجل حتى مطلع الألفية الثالثة يخاف من الأجهزة الكهربائية والإلكترونية، وفجأة صار حجة في شؤون الإنترنت وتقنية المعلومات، ثم مديرا لموقع "إسلام أونلاين".

وعيني عليه باردة، لأنه أصدر حتى الآن 120 كتابا، كل واحد منها محكم الحبك والسبك، وثري المحتوى، ولأنه – بالمصري – "مش وِش نعمة"، فإنه لا يبيع كتبه بل يُعدُّ منها نسخة إلكترونية، متاحة لكل من يريد قراءتها أو حتى نسخها.

آخر كتاب صدر للبسيوني، يتناول فيه تجربته كمصحح لغوي في عالم الصحافة، وكعادته يعرج على هذه المطبوعة أو تلك، لعرض سوءاتها اللغوية، ونبش الأخطاء الشائعة، من قبيل "من ثُم" بضم الثاء و"توفى" بفتح التاء وبألف مقصورة في آخرها، بما يوحي بأن الميت فارق الدنيا بقرار شخصي، و"هَرعت - بفتح الهاء - سيارات الإسعاف"، وكأن تلك المراكب.

الخرساء، تتمتع بحس إنساني، وتهرع من تلقاء نفسها إلى حيث من هم بحاجة إلى "إسعاف".

ومن خلال التفاعل مع من يتابعوني على صفحتي في فيسبوك، أدركت إلى أي مدى جنت أنظمتنا التعليمية على جيل كامل، وعلى اللغة العربية، فتجد من يقول وهو يكتب بالفصحى – أو يحسب ذلك: استقريت (وليس استقررت)، واضطريت (وليس اضطررت)، وإنشاء الله (إن شاء الله)، و"الله ما" (اللهم).

ومن الأمثلة التي أوردها البسيوني في كتابه، والتي يلحظها كل ذي حس لغوي شبه سليم، في ما تعج به الصحف ومنتديات الإنترنت: "لِما فعلت ذلك"، بدلا من "لِم"، والسلامو عليكم، و"أنتي تركت كتابكي في السيارة"، و"فرائظ الوظوء".

وما من كاتب صحفي جاد ومسؤول، إلا وضايقه تدخل المصحح اللغوي في ما يكتب، حتى لو كان التدخل مبررا، لأنه يُذكِّر الكاتب بأن ما حدث كان بسبب "نقص القادرين على التمام"، بينما اكتسب البعض مسمى كاتب، ولحم أكتافهم من خير المصححين اللغويين، أي أنهم يكتبون فسيخا، ليحوله المصحح إلى شربات، وهذه الفئة من الكتاب كل همها أن تقرأ اسمها مكتوبا قرين مقال، حتى وهي تدرك أن حصتها الحقيقية من المقال دون ال60% بكثير أو قليل.

عندما كنت أكتب في مجلة "المجلة" في حقبتها اللندنية، كان بها مصحح عراقي، يتحسس من المفردات العامية في المقالات، حتى ولو كان وجودها ضروريا للسياق العام للمقال، وذات مرة أوردت اسم مسرحية عادل إمام المشهورة "شاهد ما شافش حاجة" فما كان منه إلا أن جعلها "شاهد لم ير شيئا"!

ويتم إلحاق الأذى الجسيم باللغة في الصحف، بتكليف مصحح واحد بمهمة مراجعة وضبط "بلاوي" المحررين والكتاب والمراسلين، وتصريحات المسؤولين الحكوميين من ذوي الاحتياجات اللغوية الخاصة، فلا ينتبه المصحح المسكين إلى بعض الأخطاء الجسيمة بسبب ضغط العمل، ولا إلى "البلاوي" التي في الإعلانات، ومن ثم قرأنا كيف أن (أكبر دار للنشر) أصبحت (أكبر دار للشر) و(أوسع المجلات العربية انتشارا) أصبحت: (أوسخ المجلات العربية)، و(حقوق الطبع محفوظة لورثة المؤلف) أصبحت (حقوق الطبع محفوظة لورشة المؤلف).

وفي السودان جعلنا "البغاء للأصلح"، نكاية بداروين، ولا تسلني كيف يلتقي الصلاح مع البغاء، ولكننا شعب لديه عداء مع القاف والغين، فيجعل هذه محل تلك!




0
التعليقات (0)