كتاب عربي 21

الاستخذاء الغربي بين الإنهاك والاسترهاب

أنس الفيتوري
1300x600
1300x600
ما أحوجنا اليوم  أكثر من أي وقت مضى إلى قراءة تاريخنا، ومراجعة الحكمة الكامنة في تراثنا، ففي غفلة عن دروسه المستفادة، وربطها بالواقع، سيقع السياسيون فريسة سهلة لمتلازمة التضحية*؛ للعجز عن التفكير الموضوعي والعقلاني بسبب تلك المتلازمة؛ فيفقدون القدرة على التمييز بين الحقيقة والوهم، فيقعون مجندلين صرعى الخوف والعجز.
 
لايمكن قراءة الموقف الأخير للولايات المتحدة في مجلس الأمن  بشأن ليبيا، إلا أن السياسة الأمريكية لا ترى في التدخل العسكري الأجنبي مصلحة تستدعي ذلك، وفشل السيسي والمجموعة العربية الداعمة له جاء من هذا السبب الرئيس، وليس من دبلوماسية بعض الدول العربية كتونس والجزائر وقطر الذين حركهم الخوف من خلط الأوراق وزيادة الفوضى إلى معارضة تمرير القرار.
 
من الصعوبة بمكان تصديق أن القوى الدولية على قناعة بالسياق الذي يقوده المبعوث الخاص برناردينو ليون بشأن الحكومة التوافقية وقدرتها على إنجاع الحل السياسي، فهم يعرفون تمام المعرفة أن التوزيع والتقاسم  مشهد أمامي يغطي على سياسات أخرى تهدف إلى القضاء على ثوار بنغازي ودرنة وتفكيك قوة مدينة مصراته.
 
لكن الموقف الأمريكي ومن ورائه مواقف بعض الدول الأوروبية ليس بغريب إنما الغريب أن يفصح رئيس المؤتمر في خطابه الأخير عن رفض مبدأ تقاسم السلطة، ثم تخالفه تصريحات من أعضاء في المؤتمر بعد سلسلة الأحداث الأخيرة، فترحب بحكومة التوزيع والمحاصصة التي لايُعرَف حتى هذه اللحظة من سيصادق عليها؟ وما القوة التي تحميها؟ وكيف يعطى ما يهيئ لها ظروف العمل والإنجاز؟
 
يبدو أن المؤتمر بوصفه المؤسسي يتأرجح سياسيا، نظرا لعدم وجود منظور واقعي ابتكاري لمسألة التوافق الاجتماعي، ولعدم وجود ارتباط عضوي بالتيار  المقاوم للانقلاب والتوجهات الغربية.
 
ولا زالت رئاسة المؤتمر تواجه صعوبات جمة على المستوى السياسي، وصعوبات أخرى في القدرة على التوزان بين قديم يرى الحل في تقاسم السلطة والتوافق السياسي المزعوم، وجديد يعارض التنازل عن مشروع المقاومة وخذلان تيار التغيير، وترك الثوار المجاهدين من غير ظهير سياسي بعد أن تبرز للعلن حكومة ما يسمى بالتوافق.
 
من العجب العجاب توهم وجود سلطة متنازع عليها في ليبيا، فالدولة السابقة المركزية شهدت عمليات هدم لايمكن أن تقوم على أنقاضها أي سلطة، بل إن التحدي الأكبر هو استيعاب التغيير العميق الذي طرأ بعد الثورة، وابتكار حلول جديدة تدفع صوب التفكير أولا في التخلص من سيناريوهات الإنهاك التي تستهدف المدن المقاومة للانقلاب مثلما حصل في بنغازي، وثانيا إعادة بناء الدولة وفق منظور جديد.
 
ما يمكن استنتاجه منطقيا أن حكومة التوزيع ليست حلا، إذ أنها تتناقض بين رؤيتين لايمكن أن تجتمعا على سقف حكومة واحدة، لكن السؤال الذي يفرض نفسه  لماذا الإصرار عليها من الدوائر الغربية؟ ولماذا تدعمها الولايات المتحدة وإيطاليا؟ ربما الإجابة في الكلمة المفتاحية "الإنهاك" تلك الكلمة استراتجية تهدف إلى إنهاك كل الأطراف الليبية، ثم يأتي التدخل بعد ذلك لإعادة هندسة ما تبقى وفق المصالح الغربية.
 
لقد بلع الكثيرون الطعم حين طابق خطابهم خطاب الغرب بشأن "الاسترهاب"، فالبرغم من التجارب الفاشلة التي وقعت في العراق وغيره لايزال من يقول بدعوى "الاسترهاب" عن سوء نية أوحسنها لجر البلاد إلى مثل تلك التجارب، والتي لم تجن منها تلك الشعوب إلا الويلات الجسام، وستحتاج تلك الشعوب إلى زمن طويل للنهوض وعلاج الآثار التي تسببت بها استراتجية إنهاكها، وإنهاك القوى الداخلية للمجتمعات.
 
لقد تحالف تيار ما يعرف "بالقيادات القبلية" الذي صنعه القذافي  لقيادة القبائل في الشرق الليبي مع الجنرال المتقاعد حفتر ودعمته دول عربية وغضت الطرف عنه الأمم المتحدة وأمريكا فيما يشبه الدعم السياسي من أجل مكافحة "الاسترهاب"، لكن كانت النتيجة ضرب الفقهاء، والمحفظين، والأئمة، والخطباء، وحرق المدينة، وتدميرها، والانتقام الواسع من كل من له علاقة بالثورة، وفي المقابل عجزت تلك الآلة العسكرية الهمجية عن تحقيق أي شئ يذكر في مواجهة "الاسترهاب" لكنها أوصلتنا إلى غاية أخرى وهي إنهاك المجتمع وتدميره.
 
إذا ما نجح الغرب بقفازات الانقلابيين في انهاك المجتمع في الشرق الليبي، ووجد ضالته في قيادات خانعة في الغرب الليبي، فإنه سيسعى بكل ما أوتي من قوة مادية ومعنوية لتوريط مدينة مصراته في مواجهة "الاسترهاب" من غير أي رؤية، أو تعريف واضح له؛ لكي تقع هي الأخرى في مواجهة مع فئات واسعة من المجتمع أو هلال القبائل الذي يحيط بها إحاطة السوار بالمعصم خدمة للأجندة الغربية، وإذ يراد لها أن تدخل في هذا النفق المظلم، و يسعى الغرب إلى الفصل بين المدينة وتيار التغيير، حتى تتورط المدينة فيي حرب من غير أي سند من مرجعيات دينية أو أخلاقية.
 
وفي الوقت الذي يطغى فيه الخطاب الغربي الداعم بقوة لحكومة التوزيع، والمحاصصة تسعى منظمات، ومؤسسات غربية إلى شق الصف الداخلي لتيار التغيير، واستقطاب شخصيات جديدة لضمهم إلى قائمة المهرولين صوب العواصم العربية، والغربية من خلال مشاريع للحوار، وورش العمل برعاية تلك المنظمات.  
 
أختم القول بحكمة ليبية ولسان وطني يذكر بالتريث والفهم قبل الاستعجال في اتخاذ المواقف الاستراتجية لكي لا نقع في فخاخ المشروع الغربي أو تهديدات الانقلاب، فيقول شاعر الوطن أحمد رفيق المهدوي:
 
قالوا تكلم قلت لا حـتى أرى ***** ما في القضية من طبيخ يطبخ
إني أخاف بأن أكون كزامر      *****      للصم أو في غير نار أنفخ
قلبي يحدثني بأن ممثلا   *****    خلف الستائر للحقائق يمسخ
أما الذي هو في الحقيقة واقع    *****   وطن يبـاع وأمة تتفسخ

* متلازمة التضحية: مجموعة من الأعراض التي تصيب القادة بسبب التحديات والضغوط التي تواجههم وتؤدي إلى تفعيل منظومة الودية المتعاطفة، ومن آثارها أنها تحفز القادة وترهقهم ذهنيا وبدنيا فلا يستطيعون التعامل مع الأحداث بموضوعية وواقعية بل بوقوعية.
التعليقات (0)