قضايا وآراء

الجنوب مهوى القلوب.. من وحي ذهيبة وأخواتها

نور الدين الغيلوفي
1300x600
1300x600
 ما دام الوطن مشدودا إلى الجغرافيا في وجه من وجوهه فلا بدّ من أن تكون الجهات من مكوّناته.. والجنوب كالشمال، والغرب كالشرق، كلها من الجهات.. وإذن فليس من شمال إلا وله جنوب.. ذاك قدر الجغرافيا وإكراه المكان.. اللهمّ أن تكون من تربية الإعلام التونسيّ...
***
في جنوبنا الموجوع بقايا من نار أوقدها مفجّر الثورة محمد البوعزيزي.. ولكنّها نار تسري في اللحم الحيّ وأثناء العظام وبين العروق.. حروق لا كالحروق.. وبجنوبنا الأبيّ بقايا من حلم قديم، قِدَمَ الدولة الوطنية، بالثورة من أجل تحقيق الكرامة المهدورة واسترداد الحرية المسلوبة وتحقيق العدالة المنهوبة واسترجاع الوطن المختطَف من قبل وكلاء الاستعمار الجديد..

لقد بلونا الدولة الوطنية منذ قيامها على خلافة دولة المستعمر فينا، فباءت بفشل ذريع؛ إذ تركتنا وراء ظهرها وأسلمتنا لأقدارنا نفجّر من الصحراء ينابيع حياتنا ونغزل من الأحلام خلاصَنَا.. ألقت بنا الدولة الوطنية في اليمّ مكتوفين، وهدّدتنا إن نحن أصابنا من بلل مظالمها.. ولمّا صارعْنا "التخلّي" وحفرنا في الصخر أرزاقنا أقبلت علينا غيلان الدولة المتغلّبة لتأكل من زادنا ولتمعن في إمساكنا.. بل لتبدلنا من عيوننا عيونا لها لا نرى بها غير ما تريده هي لنا.. راحت "دولتنا" تأكل من زاد جنيناه بالعرق وتنهب من رزق عجنّاه من الدموع على هامشها وبعيدا عن مركزها الممنوع من العرق ومن الدموع.. وكانت كل سيرتها فينا شعارات جوفاء واحتفالات عجفاء خُلاصتُها عبارتُها الاحتفالية الكريهة "بكلّ فخر واعتزاز".. هل تذكرون صيغ احتفالات تجمّعهم المقبور بمناسباتهم الكريهة؟.. كانوا يفخرون ولا مفاخر لهم.. ويعتزّون ولا عزّة لديهم.. لقد سرقوا اللغة ووضعوا المعاني في غير مواضعها حتى قتلوا الإنسان فينا وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا بنا.. ألم تر كيف أنّ دولتهم كانت كلما رفعت شعارا عملت بما يناقضه؟.. ذاك ديدنها.. وطيلة ستين سنة من حكمهم لم تكفّ المآقي عن دموعها ولم تغادر الأجساد قروحها.. وبفضل دولتهم المبنية على الجماجم سال من الدماء ما لم تقدر دولة الاحتلال على سفكه، وتحت حكمهم ضاعت أعمار وقُبر شباب.. واغتيلت بعبقرياتهم أحلام.. وتبخّر في حضرتهم وطنٌ ظلّت الأجيال تحلم بكونه.. ولا صوت يعلو فوق صوت الحداثة والتنوير حسب زعمهم..
***
 ولقد بقي أهل الجنوب "طرفا" نائيا ممنوعا من الاقتراب من "مركز" الدولة الوطنية الموقَّرة.. وظلّ سدنة دولة الذئاب الجائعة متحصّنين بقصورهم يمنعون مرور هؤلاء "الأغيار" بجانبها ويخشون التفاتتهم إليها مخافة حسدهم وما يشتملون عليه من الحقد الطبقيّ.. فكانت تونس، في ظلّ دولتهم الوطنية الحداثية،  تونسيين اثنتين: تونس الحاكم المطلق الذي يرى في الشعب ذرات غبار ينشغل هو بتكوينها ويعجنها وفق مشيئته.. وتونس المحكوم الأبدي الذي عليه السمع والطاعة ونسيان الشفاعة.. خطان متوازيان لا يلتقيان إلا عند مواسم الجباية والخراج... 
***
ثمّ تأتي وجوه من نخبة زائفة تربّت في حجور المستشارين وأدمنت جحور اللصوص لتتخذ من الجنوب موضوع حديث لها، تتندّر حينا وتخوّن أحيانا..

• فالذين انتخبوا جلادا عتيقا عذّب آباء التونسيين وأجدادهم، فجاؤوا بالانتهازيين إلى قصر قرطاج، كانوا هم فصيلة الصفّ الوطنيّ، أمّا أولئك الذين استقلّوا باختيارهم فقد كانوا هم الخارجين على الدولة والقانون والوطنيّة ووجب ردعهم لردّهم إلى الصف الوطنيّ، وما استعمال القوّة المفرطة ضدّ سكّان مدينة ذهيبة الحدودية إلّا ترجمة لواجب وطنيّ مقدّس تأتيه دولة تبحث عن هيبتها في دماء أبناء الجنوب...

• هؤلاء لا يعترفون بأنّ الأيّام دول.. فإذا جاء حكّام من غير نخبتهم شنّوا عليهم حملاتهم وأغروا بهم غلمان إعلامهم وقيانه يشنّعون ويشهّرون ويسيرون في عرض البلاد وطولها بالإرجاف وانتهاك الأعراض.. وتباكوا على هيبة دولتهم المهدورة وحداثتهم المغدورة من قبل شذّاذ الآفاق من الذين لم تصل إليهم الدولة فظلوا خارج سياقها الوطنيّ يفعلون من الأمر ما لا يليق...

• وما دام الحاكم من "سلعتهم" ومروّجا لبضاعتهم فكلّ محتجّ عليه خائن غدّار عميل إرهابي مهرّب يعمل لجهات أجنبية.. ملثَّم حتى لو كان سافرا.. وإذن فدمُه حلال وقتله واجب وطنيّ لا يشبهه واجب.. كيف لا ودولتهم لا تكون إلاّ بشرب دمائنا؟ علينا أن نموت ليعيشوا وأن نزرع ليأكلوا وأن نجوع ليشبعوا.. فالدولة لا تكون بدونهم.. والدولة لا تكون إلّا بدوننا.. وما دام لنا دولة فليس بنا حاجة إلى شعب...

عاشت الدولة.. ولا نامت أعين الشعبويين...
التعليقات (1)
هناء المنذري
الأحد، 15-02-2015 12:43 ص
كيف لا يحدث ما حدث في جنوبنا العزيز وأهله هم الذين عرفوا بأصالتهم وبسعة صدورهم وبقوة جلدهم وكثرة صبرهم على المكاره - إن صحت العبارة-باعتبار أنهم ومنذ الاحتلال الفرنسي وحتى يومنا هذابقوا خارج دائرة الاهتمام رغم تضحياتهم النضالية وتميز عطاءات نخبهم من رجالات الثقافة والعلوم والأدب ، كيف لا يحدث لهم هذا وقد استثنوا مراراً من فرص حقيقية تؤمن لهم أسباب العيش الكريم أو من إمكانية تطوير حياتهم الفردية والاجتماعية لقد عوقبوا على انتمائهم الجغرافي الذي ذكرت فورثوا الحرمان وشظف العيش ، والموقف الصحيح اليوم هو طرح تساؤل منطقي : إلى متى سينتظرون ؟ وكم من الحكومات الوطنية ستتعاقب ليتم التصالح يوماً بينهم وبين انتمائهم وبينها وبين الوطن وحكامه فينصلح الحاضر ويزدهر المستقبل.