قضايا وآراء

مناضلون جنرالات

محمد جعفر
1300x600
1300x600
كنت محظوظا في الأسبوع الماضي عندما جاء مقعدي بجوار مقعده في مؤتمر البيئة والبحث العلمي فهو أستاذ مرموق في تخصصه فوق انه سياسي بارع ومناضل كبير له في قلبي مكانه فقد عرفته عندما دعاني احد الأصدقاء لحضور مؤتمر سياسي في رحاب نادي أعضاء هيئة التدريس جامعة القاهرة في العام 2003 وكان علي منصة الحضور الدكتور جهاد عودة العضو البارز في لجنة السياسات بالحزب الوطني والدكتور عصام العريان العضو البارز في جماعة الإخوان المسلمين واحد أكثر وجوهها قبولا لدي النخبة في ذلك الوقت وحسن نافعة الأكاديمي المعروف وجاري المناضل المعروف احد مؤسسي حركة 9 مارس وكفاية والحركة الوطنية للتغيير وكان يدير الندوة نائب رئيس النادي الوزير السابق الدكتور عمرو دراج وقد اشتبك صديقي " المناضل" مع جهاد عوده اشتباكا عنيفا واتهم الحزب الوطني ونظام مبارك بأنه خرب البلد وجلب إليه الاستبداد والقمع وحول الوطن إلي دوله بوليسية تعمل ضد الحريات وتنتهك حقوق الإنسان كما اتهم لجنة السياسات بأنها تسير بالبلد إلي الهاوية فصفق له الحضور تصفيقا حادا أما جهاد عوده فقد كان منطقه ضعيف وحاول أن ينصرف إلا أن رئيس النادي د.احمد عبد الجواد تدخل لتهدئة الأجواء.

كانت استراحة الشاي فرصة لتذكير صديقي بمواقفه الشجاعة ونضاله الرائع وقد اختصرت المشهد برمته فقلت له : جرأتونا (اقصد رواد حركات النضال الوطني) فقال ضاحكا :غرقتونا (يقصد نظام د.مرسي) ثم استطرد صاحبي المناضل السابق الذي أصبح جنرالا فقال مبررا موقفه الجديد بأن السيسي هو رجل المرحلة وان مرسي هو السبب في كل بلية حلت بالوطن وان الحريات في عصره لم تكن هبة منه ولكن كانت نتاج نضال وان المؤسسة العسكرية تأتي قبل الدولة مستدعيا تجربة محمد علي الذي بني الجيش قبل الدولة وعلي حسابها علي حد قوله وان مسؤولية الضحايا في رقبة من حفزهم علي التظاهر والاعتصام وان 6 ابريل وائتلافات شباب الثورة 200 واحد وليس لهم أي تأثير في الشارع وان المسار الديمقراطي لم يتحول وان الحقوق والحريات في عصرها الذهبي وان 30 يونيو كانت ثورة حقيقية وان محمد مرسي كان مستبدا وشيطانا وان فرصة توحد ثوار يناير منعدمة وان أي رأي بخلاف ذلك صاحبه إما إخوان أو خلية نائمة علي اقل تقدير ..

كنت حزينا لأني شعرت أن ورقة بيضاء شوهته يد الماحي عندما بالغ في إزالة ما كتب بدا لي و كأن صاحبي ابتلع نضاله وأسس لاتجاه معاكس يكفر فيه عن خطاياه النضالية في حق النظام السابق الذي عاد يحكم ويتصدر علي جثث الآلاف . 

في السابق كانت المواقف التي تعبر عن مناهضة النظام والنضال من اجل إطلاق الحقوق والحريات من خارج الإخوان المسلمين نادرة كما أن حركات النضال الوطني كانت ما تزال مغمورة تقدم رجلا وتأخر أخري علي هذا الطريق وذلك نظرا لارتفاع كلفة المعارضة التي لم تكن ترفا فقد يؤدي موقفا معارضا إلي استهداف صاحبه ووضعه في دائرة الخصومة والقمع ولذلك كانت هكذا مواقف تستقبل بمزيد من الإعجاب والدهشة لا سيما إذا كانت من شخصيات مستقلة..

علي أية حال تصاعدت هذه المواقف وأخذت زخما وحيوية وبدأت تتسع حتى شملت قطاعات شبابية وشعبية هامة تبلورت في النهاية لعدة حركات نضالية تجمع معظمها في الحركة الوطنية للتغيير فضلا عن عشرات الحركات الشبابية التي أُسست لترصد ظواهر سياسية واجتماعية معينه كالتزوير والفساد والتحرش وغير ذلك. 

في المجمل تكون جيل متمرد علي الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية متجرئا علي النظام الأمني وآلته الفتاكة الأمر الذي أدي في نهاية المطاف إلي اندلاع ثورة يناير التي نجحت في خلع نظام مبارك وإطلاق نظام ديمقراطي برعاية القوات المسلحة تقدم فيه التيار الإسلامي في كل الاستحقاقات بما فيها انتخابات الرئاسة التي فاز فيها الدكتور محمد مرسي أول حاكم مدني منتخب للبلاد.
جرت في النهر مياه كثيرة واستطاع العسكر وروافده العميقة تطويق الثورة وإلغاء كافة مكتسباتها وتفكيك فاعليها ودفع عدد غير قليل منهم إلي مربع الاستنجاد بالعسكر - الذي كان شغوفا ومتربصا لتلك اللحظة- للمساعدة في إزاحة الرئيس وتمكين رواد حركات النضال السابقين من الحكم ولو من شرفة ثكنة محاطة بالدروع والتجهيزات العسكرية فكانت30 يونيو التي أصبحت علامة فارقة في تاريخ النضال الوطني أو إن شأت قل تفكيك حركات النضال الوطني وقتل ضمير النخبة وإفساد ذوقها السياسي وتزييف الوعي العام ..
تبدل حال المناضلين رفقاء الأمس الذين كانوا يشعرون بوحدة الهدف والمصير إلي ديوك متشاكسة بين مخالب الثعلب الذي أفسح لهم قليلا حتى دخلوا جميعا في الشراك فانعم علي بعضهم ببعض المناصب والهبات،  فسكت الآخرون طمعا في الإحسان،  وفي سبيل ذلك تغاضوا عن كل شيء القتل والحرق ، الاعتقال والترويع، المصادرة والتجويع ، الارهاب والتركيع ..

شربوا الشاي بالياسمين فتعاموا وهم مبصرون .

علمانيون وليبراليون وقوميون ويساريون صدعونا بمحاسن التعايش وقبول الرأي والرأي الأخر في إطار ثقافات الحوار والتعدية والديمقراطية والحرية ومعيار حكم الشعب وتغليب إرادته...الخ حتى نَظّر احدهم لمصطلح "العلمانية هي الحل" في مقابل "الإسلام هو الحل" مستشهدا بالتجربة التركية ساردا محاسن العلمانية وكيف كانت هي الطريق الآمن لوصول الإسلاميين إلي سدة الحكم هناك.
والعجيب أن ليبراليو قومي لم يصمدوا أمام أول اختبار حقيقي لهم فاختاروا الانحياز للدكتاتورية والاستبداد ،  ابتلعوا كل المصطلحات التي طالما دافعوا عنها في إطار التنظير والمناورة السياسية كصنم العجوة يعبد في الرخاء ويؤكل في الشدة .. 

نادوا باعتبار الانتخابات معيار للقبول الشعبي وطريقا ديمقراطيا لنيل شرف خدمة الوطن فلما جاءت بغيرهم كفروا بها واستغاثوا بالعسكر للفتك بمنافسيهم تحت شعار "الصندوق ليس كل شيء" أداروا ظهورهم للحقوق والحريات عندما كانت الانتهاكات والمصادرة تلتهم منافسيهم السياسيين تحت شعار "هيبة الدولة " و"حفظ الأمن" و"محاربة الإرهاب" وقد قلنا مرارا أن المصطلحات الوافدة التي هي من قبيل "الديمقراطية " صنعت في الغرب لتستهلك في الغرب فهي بضاعة مستعصية علي التصدير في صورتها الغربية وان تخطط الحدود توحشت فكانت كالجيوش المغيرة تقتل وتدمر وتفتك ...

العجيب أن معظم هؤلاء الآن مصابون بصدمة نتيجة تحول الانقلاب عنهم إلي دولته العميقة ورجاله السابقين ولا عزاء للمغفلين.
قلت لصديقي "المناضل الجنرال" باختصار معظم حركات النضال الوطني ترهلت فأصبحت غير قادره علي كلفة النضال فآثرت التدثر بالمموه . 

سألته أين عبد الجليل مصطفي،  محمد أبو الغار،  حسام عيسي ، ليلي سويف، يحي القزاز وغيرهم ممن شارك في الانقلاب علي الديمقراطية فالتهم العسكر انجازاتهم القديمة وأحلامهم المستقبلية ..

أين استقلال الجامعات؟؟ أين إلغاء الحرس الجامعي؟؟.. فضلا ..أين انتخاب رؤساء الجامعة وعمداء الكليات ورؤساء الأقسام ؟؟ .. 
ملحوظة : كتب هذا المقال قبل إلغاء انتخابات العمداء ورؤساء الأقسام التي أطاحت بـ"صديقي الجنرال" بعد أيام من انتخابه لأحد المناصب الجامعية.
*باحث سياسي- مركز الديمقراطية وحقوق الإنسان 
    
0
التعليقات (0)