الطوبيا بين الواقع والمأمول 2

في المقال السابق بعنوان "الطوبيا بين الواقع والمأمول 1" حاولنا أن نوضح الأصل التاريخى والفلسفى  لكلمة طوبيا  وكيف تحولت الكلمة من مجرد مصطلح  إلى فكرة اساسية ظهرت في الثلاث قرون المنصرمة  لتشكل معظم الأطروحات الفلسفية والايدولوجية والسياسية  فى ذلك الوقت، ذلك بسبب تطلع الانسان الدائم لأقامة العدل المطلق أو السلام الدائم , وقد ذكرنا ايضا انتقال تلك الفكرة من حيز الافكار والتنظير إلى الحيز المادى الملموس وحيز الفعل بأقامة الدولة الشيوعية في شكل الاتحاد السوفيتى.

ولكن سرعان ما تلوثت الفكرة بالممارسات السياسية وخضعت للموائمات الدولية  فنهار الاتحاد السوفيتى في اواخر القرن العشرين تاركا سؤالا يطرح نفسه "هل الطوبيا يمكن تحقيقها على الارض؟".

لا نريد أن نتسرع في الإجابة خاصة أن فكرة الطوبيا لم تكن متضمنة فقط في الاتحاد السوفيتى أو الايدولوجية الشيوعية إنما_ كما ذكرنا سابقا _انها فكرة كانت ولازالت محركة لأغلب الاطروحات الحديثة وربما القديمة ايضا مثل فكرة الدولة القومية المحتكرة للسلاح وايضا فكرة الايدولوجيات عامة .

 وبرغم سقوط الدول الشيوعية وفشل اغلبها في تحقيق ما كان يدعو إليه ماركس عندما وضع الفلسفة الشيوعية إلا أن هناك افكار واطروحات لم تسقط بعد مثل الدولة القومية التي جائت لتنهى الخلافات والنزاعات باحتكار السلاح وفرض هيمنة مركزية على جزأ من الارض يعيش عليها مجموعة من الناس مقتَطعين من تاريخهم الحضارى وانتمائهم الاثنى والعرقى واحيانا كثيرة الديني.

 لكن نعود للسؤال الاصلى هل الطوبيا ممكنة التحقيق؟ 

 الناظر في التاريخ الحديث وربما القديم ايضا يكتشف أن الانسان في كل انحاء الارض فشل فشلا ذريعا في تحقيق تلك الطوبيا المزعومة .

 فلا المدينة الفاضلة لأفلاطون تحققت ولا المدينة الفاضلة لتومس مور وُجدت ولا االدولة الشيوعية
 التي يصبح فيها كل شئ مشاع وتنهار فيها السلطة واطماع الانسان وملكيته الفردية قامت ولا الدولة القومية انهت النزاعات بل بسببها  خاض العالم حربين عالميتين هلك فيهما ملايين البشر .

 واسباب ذلك السقوط لا يقتصر على الاسباب السياسية أو الموائمات الدولية فهناك اسباب فلسفية ونقد بنيوى كشف عورات تلك الفكرة التي ارادت السيطرة على مساحة الانسان الجوانية والبرانية وارادت  تنميطه وترشيده  بأعلى قدر ممكن لتحقيق اكبر منفعة وتقليل الخسائر للحد الادنى ودون الخوض في نقد فلسفى قد يطول بطول عمر الانسان على هذه الارض وبطول المساهمات الادبية والفكرية والفلسفية التي طرحها الفلاسفة والمفكرون لنقد الحداثة وطوبياتها  وتحرير الانسان من القيود التي وضعتها عليه. 

نأتي بأقرب مثال في التاريخ الحديث لهذا الكوكب، ففي ثلاثينات القرن العشرين ظهر رجل في المانيا كان جندي في الحرب العالمية الاولى وشاهد جيش بلده وهو يندحر وشاهد الفساد والكساد اللذان ظهرا في المانيا وشاهد مكر السياسين والاعيب  اليسارين وفساد وخبث اليهود فقرر أن يبني وطنا جديدا لا مكان فيه لليهود ولا للضعفاء ولا للخبثاء ولا لليسارين ولا للمرضى ,هذا الشخص هو "هتلر" الذي عزم على بناء مدينة فاضلة سكانها متفوقون عرقيا وتكنولوجيا وعسكريا فأقام معسكرات الأبادة النازية وخاض حروبا شرسة مع فرنسا وبريطانيا وامريكا والاتحاد السوفيتى مات فيها ملايين البشر  وفي الوطن الجديد الذى اراده هتلر  ليس هناك ادنى خصوصية لأى مواطن ,رقابة شاملة على كل شئ 
على الافكار والتصرفات والكلمات والنظرات شئ يذكرنا برواية 1984" "لجورج أرويل وفي النهاية انهار كل شئ ولو كان انهيار النازية هو انهيار عسكرى فأنهيار الشيوعية ممثله في الاتحاد السوفيتى كان شئ يدعو للنظر حيث انهارت الفكرة قبل الدولة .

وربما  ادرك الغرب ذلك جيدا فتوقف عن السعى وراء ذلك السراب وبدلا من الطوبيا طرحت الحضارة الغربية عن طريق ممثلتها الجديدة امريكا طرح "صدام الحضارات" لصامويل هنتجتون  وانشأت النظام العالمى الجديد الذي يقسم العالم إلى مركز وهامش وطبعا الحضارة الغربية وفي مقدمتها امريكا هي المركز الذي يجب ان يُحفظ أمنه ويستمر تقدمه  وتوصلوا إلى حل اى نزاع يخص اطراف المركز بالمساومات وتقسيم المصالح  اما النزاعات في العالم الثالث أو العالم الاسلامى أو العالم العربى فهو نزاع في الهامش تديره امريكا بطريقتها سواء بالتوغل الاقتصادى أو الغزو الثقافى أو الحذاء العسكرى بما يناسب مصالحها .

 لقد اعلنت امريكا عن انتهاء عالم الافكار  بأنتهاء الحرب الباردة  وانتصار الليبرالية ثم غزو العالم بعقيدة الصدمة والليبرالية الجديدة  ليبدأ عالم التمركز حول الاشياء وازدهاره  ليبدأعصر العلم لكن العلم كأداة في يد الاقوياء  وكاتكنولوجيا لتعظيم المنفعة وتعظيم القوة العسكرية  لسحق اى تهديد يواجه النظام العالميإن فكرة النظام العالمى ليست فكرة طوباوية تنتهى عندها كل المشاكل بل هي فكرة للهيمنة على الواقع وادارته لتحقيق اكبر منفعة لامريكا وقوى الغرب. 

 لكن إذا كانت فكرة الطوبيا لم تعد بتلك الاهمية فلماذا نناقشها ؟ 

 اننى هنا اناقش فكرة الطوبيا لأنني اعتقد أن فكرة الطوبيا من احدى الاشكاليات التي تواجه العالم الاسلامى اليوم  خاصة الاسلامين  الذين يدعون أنهم حريصون على الإسلام ومهتمون بقضايا الأمة ولديهم طرح سياسي لحل مشاكل الأمة الإسلامية وتلك الإشكالية تتجلى بوضوح في خطاب الإسلامين  الايدولوجي الذي هو نفسه إشكالية لكن سنناقشها في مقال اخر. 

ومثال على ذلك الخطاب الشعارات  التى  يطلقها الإسلاميون مثل"الاسلام هو الحل_الصندوق هو الحل_ الثورة هي الحل_الجهاد هو الحل".
 
إننا نلاحظ في خطاب الإسلامين ذلك الإدعاء الطوباوى  أن المشكلة بسيطة وبمجرد فعل ما يدعيه اى شعار من الشعارات السابقة ستنتهى كل المشاكل.
 
فهل تلك الطوبيا تعود اصلا للإسلام ؟ 

 لقد جاء الإسلام عندما نزل به الروح الأمين جبريل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم  ليس كمذهب اقتصادى أو مذهب اجتماعى أو كنهضة اقتصادية  إنما جاء كعقيدة  لأقامة التوحيد في الارض  واتباع الوحى سواء كان قرآن أو سنة نبوية ,وتحكيم شريعة الله في الارض .

 لقد جاء الإسلام بكلمة لا إله الا الله واتباع الوحى وإقامة الحاكمية لله  لذلك كان لزاما على المسلمين قتال الطواغيت والأهواء والشهوات لتسمح للناس أن يروا الحق  ويختاروا ,حينها  فقط من شاء فاليؤمن ومن شاء فليكفر هذا حق الانسان في الاختيار 
"وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ? فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ? إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارً"
والرسول صلوات الله وسلامه عليه لم يعد أمته برخاء اقتصادى أو ازدهار اجتماعى أو تقدم حضارى بل وعدهم بالجنة وهذا ما بايع عليه المسلمون في بيعة العقبة الاولى والثانية وبيعة الرضوان تحت الشجرة: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ(10)تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(11)يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(12)وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ)(13- الصف) 

 وفي حين قيام دولة النبوة في المدينة ثم في مكة لم تحقق تلك الطوبيا فلم تتوقف الذنوب أو أخطاء البشر لأن البشر بطبعهم خطائون عن ابن عباس بلفظ "‏لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، وجاء بقوم يذنبون"‏ ‏[‏رواه الإمام مسلم في ‏"‏صحيحه‏"‏ ‏من حديث أبي هريرة رضي الله عنه‏]‏، وفي رواية‏:‏ "ثم يستغفرون فيغفر لهم‏" وعزا روايته إلى الإمام أحمد في ‏"‏المسند‏"‏‏.‏ 

 وفى عهد النبوة أقام الرسول صلى الله عليه وسلم على اصحابه حد السرقة وحد الزنا وحد شرب الخمر  في قصص صحيحة مذكورة في السيرة النبوية .

إذا ففي اكثر فترة قربا من الطوبيا حيث عاش افضل الانبياء صلوات الله وسلامه عليهم ومعه الصحابة الكرام لم تتحقق الطوبيا وارتكب عديد من الصحابة الاخطاء والذنوب ثم في عهد الخلافة الراشدة تكررت تلك المعاصي والأخطاء من الصحابة رضوان الله عليهم بل دب الخلاف بينهم ووصل في عهد عثمان وعلى عليه السلام إلي التقاتل بالسيف.
 
لذا فأن الإسلام  لم يؤمرنا بأقامة تلك الطوبيا التي يتحقق فيها العدل المطلق أو السلام الدائم وإلاسيكون يحملنا فوق طاقاتنا وحاشا لله أن يفعل ذلك (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)

 إذا فمن أين جاء ذلك الخطاب الطوباوى الذي يقترب منه الاسلامين الآن سواء  في شعاراتهم أو في أهدافهم مثل أقامة الخلافة أو حلم التمكين.

لقد عاش المسلمون قرونا تحت وطئة الاستعمار الغربى  الذي لم يغزو بلاد المسلمين عسكريا واقتصاديا فقط بل كان غزوه الأكبر على مستوى الافكار حيث أثر ذلك بشكل كبير في وعي المسلمين بعد الاستعمار وجعل وعيهم وطريقة تفكيرهم  تحوي علي الكثير من اطارات الفكر والفلسفات الغربية ويظهر ذلك في الثورات والانقلابات العسكرية والافكار التي كان تعيشها الشعوب بعد جلاء الاستعمار مثل القومية والعروبية  والشيوعية والليبرالية  وغيرها من الافكار التى احتلت مكانا في عقل الامة وغاب عنها قضايا الإسلام الحقيقية ومشاكل الأمة والامها الكثيرة وكانت فكرة الطوبيا تلك من اكثر الافكار التي انتشرت في وعي الأمة بعد الاستعمار  واثرت على المحاولات الاصلاحية التي قام بها الاسلاميون في القرن العشرين فنرى  عند اكبر الجماعات الاسلامية انتشارا وهى الاخوان المسلمون سلم تدرج اصلاحى كالذى رأيناه عند الشيوعين فكما أن الشيوعية تبدأ بالثورات ثم حكم البروليتاريا ثم المجتمع الشيوعي تبدأ جماعة الاخوان من الفرد ثم الاسرة ثم المجتمع ثم الحكومة ثم الخلافة ثم أستاذية العالم وكأنه سلم موسيقى يسهل الطلوع والنزول عليه  بأصابع اليد ثم توقفت الجماعة ومفكريها  عن تعريف ما هو المجتمع وما هي الدولة وكيف يمكن إقامة الخلافة وما شكلها السياسى وماهو حال العالم الذي يريدون تحقيق أستاذيته.

كذلك كان النزاع الايدولوجى في الحرب الباردة  من العوامل التي أثرت كثيرا على  محاولات الإسلامين وافكارهم وهذا يظهر فيما نراه من مشاريع يقدمها الاسلامين مثل مشروع النهضة أو غيره وما هي إلا مشاريع رأسمالية لا تمت للإسلام بأى صلة إذا فإشكالية الطوبيا في عقل الاسلامين تبدو واضحة  لكل منتبه وهى توردهم دائما المهالك لأنهم يبتعدون عن الإسلام  ويقتربون من الايدولوجية بل يلبسون ثوبها ويتباهون به برغم عفانته وقدمه وكثرة الرقع به فإلى متى سيظل الإسلاميون مقتنعون بتلك المصطلحات الطوباوية والشعارات المفرغة  دون إعادة تفكير في تلك المصطلحات مثل الخلافة والتمكين والأستاذية والشرعية. 

إن المطلوب من الاسلامين في رأيي أن يتركوا الايدولوجية وخطابها الطوباوى ويعودوا للإسلام وخطابه العقدى فالأسلام ليس طرح سياسى وليس مذهب اقتصادى أو اجتماعى ولكنه عقيدة توحيد 
ونلك العقيدة هي المنجية من النار والمدخلة الجنة وهى تصور معرفى كامل يشكل وعى المسلم اولا ثم يشكل وعي الجماعة وينطلق بها إلى إقامة حكم الله  بما يناسب العصر (وهذا موضوع آخر سنحاول مناقشته لاحقا).

المطلوب من الاسلاميون أن يعيدوا قراءة التاريخ  لا بعين الايدولوجية بل بعين المسلم المخَاطب الذي لا ينفصل عن تاريخه وأمته أن يسددوا ويقاربوا فى فهمهم للإسلام كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((سددوا وقاربوا وأبشروا، فإنه لن يدخل الجنة أحداً عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله منه برحمة، واعلموا أن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قلَّ)).

 واخيرا  يقول الله عز وجل :
قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ? إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى? إِلَيَّ ? قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى? وَالْبَصِيرُ ? أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ