ملفات وتقارير

"ترسيم" العلاقة بين الدين والسياسة من جديد

العلمانيون يرون الفصل بين الدين والسياسة والإسلاميون يرفضون هذه الرؤية - عربي 21
العلمانيون يرون الفصل بين الدين والسياسة والإسلاميون يرفضون هذه الرؤية - عربي 21

العلاقة بين الدين والسياسة قضية إشكالية جدلية، دارت حول تحديد طبيعتها، ورسم دوائر الاتصال وحدود التمييز والانفصال بينهما، سجالات فكرية ساخنة، بين جمهور الإسلاميين وخصومهم الفكريين، فالمستقر في تصورات الإسلاميين اعتبار السياسة جزءا من الدين، وأن الإسلام دين ودولة، بينما تقوم مقولة العلمانية المركزية على ضرورة الفصل بين الدين والسياسة.

حينما تُثار هذه القضية تُستدعى على الفور أطروحة الشيخ الأزهري علي عبد الرازق، الجاهرة بأن الإسلام "رسالة لا حكم ودين لا دولة"، والواصفة لرسول الإسلام بأنه "ما كان إلا رسولا لدعوة دينية خالصة للدين، لا تشوبها نزعة ملك ولا حكومة.."، و "ما كان إلا رسولا كإخوانه من الرسل، وما كان ملكا ولا مؤسس دولة، ولا داعيا إلى ملك"، مودعا رؤيته تلك الخارجة عن مألوف التداول الإسلامي في كتابه "الإسلام وأصول الحكم" الصادر في القاهرة سنة 1926.

في الوقت الذي تلقف فيه العلمانيون العرب أطروحة علي عبد الرازق بحفاوة بالغة، مثنين عليها أعظم الثناء، باعتبارها تؤسس لنظرة جديدة تتجاوز مقولة فصل الدين عن الدولة، إلى القول بأن الإسلام "رسالة روحية" لا مكان للدولة فيها، فقد جوبهت من المؤسسات الدينية الإسلامية (وفي مقدمتها الأزهر) وجماهير العلماء والمفكرين الإسلاميين بالرفض التام والإدانة الكاملة. 

ولئن كانت أطروحة الشيخ الأزهري قد تم اعتبارها بمثابة حجر الأساس في مشروع "علمنة الإسلام" من داخله بحسب باحثين إسلاميين كثر، فقد ظهرت في أوساط حركات "الإسلام السياسي" رؤى مغايرة لمقررات التصور الإسلامي في الفكر السياسي، بشأن تحديد العلاقة بين الديني والسياسي، بقصرها لدور الدين في السياسة على أنه "مبادئ موجهة، وروح دافقة دافعة.. لكن الممارسة السياسية مستقلة عن أي سلطة باسم الدين أو سلطة دينية" مع تجريد الدولة من حق فرض نظام إسلامي على المجتمع بالقوة كما في أطروحة القيادي البارز في حزب العدالة والتنمية المغربي، الدكتور سعد الدين العثماني في كتابه "الدين والسياسة تمييز لا فصل". 

في خضم الجدل الدائر على خلفية اقتحام الحركات الإسلامية لميدان العمل السياسي، وتعثر تجربتها في الحكم والسلطة، هل ثمة ما يستدعي إعادة القراءة للعلاقة بين الديني والسياسي على ضوء الممارسة الجديدة وبالاستناد إلى المرجعية الشرعية؟ وهل تم تقليص مشروع إقامة الدولة الإسلامية بعد وصول تلك الحركات إلى السلطة بقصره على دور الموجه القيمي الأخلاقي فحسب على خلاف ما كانت تنادي به وتلح عليه في سابق عهدها؟ وهل صدرت الحركات الإسلامية عن رؤية واضحة ترسم مسارات محددة لعلاقة الدين بالسياسة؟

لا فصل بين الدين والسياسة

أين تقع السياسة في التصور الإسلامي بحسب القراءات الإسلامية المعاصرة؟  يرى الدكتور صلاح الخالدي، أستاذ التفسير وعلوم القرآن في جامعة العلوم الإسلامية في الأردن أن الإسلام بشموله جاء ليعالج كافة شؤون الدنيا، والسياسة جزء هام منها، ولا بد للإسلام أن يكون له منهجه وتوجيهاته في الشأن السياسي، وأن ما نطلق عليه النظام السياسي في الإسلام، هو لبيان توجيهاته في هذا الشأن، كما هو الحال في النظام الاجتماعي والاقتصادي وما إلى ذلك.

وأكد الخالدي في حديثه لـ "عربي 21" أن الدولة الإسلامية تكتسب اسمها وهويتها من كونها قائمة على تطبيق أحكام الإسلام وشرائعه في المجتمع، وهي مكلفة شرعا بهذا الأمر، ومن صلب عملها فرض النظام الإسلامي وحمايته ورعايته، ولا يقتصر دورها على تدبير شؤون الناس الدنيوية في أمور معاشهم، رافضا أن يكون دور الدين الإسلامي في السياسة قاصرا على التوجيه القيمي والأخلاقي، بل لا بد للإسلام أن يكون مهيمنا على حياة المسلمين في سائر شؤونهم وكافة مناحي حياتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

وانطلاقا من رؤيته السابقة رفض الدكتور الخالدي فصل الدين عن السياسة أو الدولة، مع عدم رؤيته لأي لون من ألوان التمييز بين الديني والسياسي، فرعاية شؤون الناس، وتدبير أمورهم، وكل ما يندرج تحتها هي واجبات شرعية على الدولة الإسلامية القيام بها، إضافة إلى توليها مهمة تطبيق الأحكام الشرعية بالرفق والحكمة.

دعاة "الإسلام دين وسياسة" ليسوا على تصور واحد

لكن هل كل الحركات والجماعات الإسلامية المؤمنة بمبدأ أن الإسلام دين وسياسية متفقة فيما بينها على تصور واحد لكيفية تطبيق ذلك المبدأ؟ يرى الدكتور محمد حوى، أستاذ الحديث النبوي وعلومه في جامعة مؤتة الأردنية، أن بعض تلك الحركات ترى في الإسلام موجها قيميا وأخلاقيا ويسعى لتحقيق العدالة والأمانة والأمن في المجتمع، في الوقت الذي ترى فيه حركات أخرى أنه حاكم على كل شيء.

ينتقد الدكتور حوى بعض مظاهر وصور التطبيقات السيئة لأتباع مبدأ حاكمية الشريعة وهيمنتها على سائر شؤون الحياة، من أخطرها: التدخل في الفكر والاعتقاد، ومحاسبة الناس على آرائهم، وربما قتل المخالف أو فصله من عمله، والمسارعة إلى تطبيق بعض الأحكام كالحدود دون تدرج ولا تهيئة المناخات الملائمة لذلك، وفرض الرأي في الأمور الخلافية.

ويلفت حوى في حديثه لـ "عربي 21" إلى أن الإسلام مع كونه نظاما شاملا لكن منهج التطبيق له أحكامه وضوابطه، فهو يكفل حرية الاعتقاد لكل الملل والنحل، ويكفل حرية العبادات لكل الجهات أيا كانت، وهو يسمح بأن تختار كل ملة قانون الأسرة الذي تؤمن به وتقره، وتبقى بحسب حوى منظومة القيم العامة والمعاملات، والعقوبات، والسياسة الخارجية والإعلامية مما يدخل تحت القانون العام، الذي يطبق على جميع المواطنين بلا تمييز بينهم.   

في التفريق بين السياسي والديني، يبين الدكتور حوى أن واجب العالم الشرعي التأكيد الدائم على وجوب تنفيذ الأوامر والتكاليف الشرعية، وتطبيق الأحكام والحدود، والتقيد بتحريم المحرمات كالخمر والربا وغير ذلك، أما السياسي (الحاكم) فواجبه أن يعلن إيمانه بذلك، لكنه ربما لم يستطع تطبيق كل ذلك دفعة واحدة، فواجبه حينها أن يعتني بالدعوة والتعليم للارتقاء بالمجتمع من أجل تهيئة الأجواء للتفاعل مع أحكام الشريعة ليصار إلى تطبيقها بصورتها الشاملة المطلوبة.

المطلوب فصل الدين عن الدولة لا عن السياسة

من جهته، وبرؤية تستند إلى حقل تخصصه في العلوم الإنسانية والاجتماعية رأى الدكتور توفيق شومر، رئيس قسم العلوم الإنسانية في جامعة فيلادلفيا الأردنية، أنه ضمن الفهم المعاصر لحرية المعتقد وحرية الرأي يصبح من أهم ضرورات تحقيق هذا الفهم للحرية السماح للفرد بأن يحمل ما يعتقد من أفكار ومعتقدات بغض النظر عما ولد عليه (بمعنى أن يكون قادرا على تغيير دينه ومعتقده دون الخوف من أن يكفر ويقام عليه حد الردة، مسيحيا كان أو مسلما، وأن يكون قادرا في الوقت نفسه على ممارسة حقوقه المدنية، وخاصة في الأحوال الشخصية، من غير أن يفرض عليه التقيد بالدين الذي ولد عليه. 

يبني الدكتور شومر على ما سبق قوله في حديثه لـ "عربي 21" أنه لا بد من فصل الدين عن الدولة بمفهوم فصل الدين عن تحديد شكل قوانين وتشريعات الدولة، وبالتالي لا بد مثلا أن يكون هناك قانون للأحوال الشخصية بمرجعية مدنية وليست دينية لحل الخلافات الممكنة في المجتمع عندما يختلف انتماء الأطراف المعنية في الدين، موضحا أن المطلوب هو فصل الدين عن الدولة وليس عن السياسية، لأن الثاني غير ممكن موضوعيا في الظروف الحالية بحسب شومر. 

يلفت الدكتور شومر في إشارة منه إلى ضرورة التمييز بين نطاقي الديني والسياسي، بأن على من يرى تدخل الدين في السياسة أن يدرك أنه بشر، وأن ما يقوله ما هو إلا تفسير بشري للنصوص الدينية، وليس نصوصا مقدسة ملزمة للآخرين.

مقاربات الإسلاميين والعلمانيين برؤية نقدية

كيف يمكن تقييم مقاربة الإسلاميين وخصومهم العلمانيين لطبيعة العلاقة بين الدين والسياسية، وحدود الاتصال والانفصال بينهما؟ ينطلق الكاتب والباحث الأردني، المتخصص في دراسة الفكر الإسلامي، محمد العواودة في قراءته لتلك المقاربات من أن الإسلاميين قدموا رؤيتهم لمناطق الاشتباك السياسي مع النص، وهذا فيه بعض الحق، كما أن العلمانيين قدموا قراءة مضادة فصلوا فيها مناطق الاشتباك السياسي مع النص، إلا أن خطأ الطرفين بحسب العواودة يكمن في أنهم قدموا رؤاهم على أساس كلي، بمعنى إما إسلام سياسي أو لا، وفي الطرف المقابل إسلام علماني لا يتصل بالسياسة أو لا، إما أن نكون في الطرف الإسلامي مشتبكين ذهنيا مع ما يفترض أنه ثوابت إسلامية في السياسة، أو منفصلين عنها ذهنيا في الطرف العلماني.

وقد جاءت محاولات الطرفين وفقا للعواودة بصفة كلية سواء كانت منهجية أو "تلفيقية"، حيث تُنفى الفكرة الأولى بثبوت الفكرة الأخرى، وهو ما اتسمت به الرؤى الإسلامية المعاصرة للقائلين بمذهب الإسلام السياسي، ورؤى المتأثرين بالقراءات العلمانية للنصوص الدينية من المفكرين العرب.

ما يقترحه العواودة في رؤيته التي خص بها "عربي 21" بناء على دراسته المستوعبة لكل الأطروحات المختلفة، هو الانتباه للمنطقة المسكوت عنها في الفكر الإسلامي وهي "البعد الإنساني في النص الشرعي"، وإبراز الدور الإنساني في المسألة السياسة، والمعنى لا إسلام في السياسة، والعكس هو الصحيح أن السياسة كلها في الإسلام، مبينا أن الله قدر لنبيه أن يكون نبيا، وقائدا عظيما للأمة، ومخضرما سياسيا، وكان يشتبك بالموضوع السياسي بصفته قائدا وإنسانا مدنيا. مع محدودية النصوص القرآنية المعالجة للقضايا السياسية، وهي لا تصلح بمجموعها لما يمكن أن نطلق عليه نظاما سياسيا إسلاميا يكون له صفة الإلزام المطلق في كل عصر وزمان خلافا لإسلاميي "الإسلام السياسي".  

يخلص العواودة إلى القول بأن ما أراده الإسلام في الموضوع السياسي هو الاشتباك معه في المبادئ العامة للدين كالعدل والمساواة والشورى وعدم الاستبداد، والقيام على ما يصلح المجتمع ..الخ، وترك التفاصيل الإدارية الدقيقة للإنسان المسلم ليخوض واقعه ويديره بذكائه دون أن يتعدى على تلك المبادئ، وهي العلامة الفارقة في أن تكون الدولة والمجتمع إسلاميين أو خلاف ذلك. لا أن تكون بالشكل الضيق للمعنى فقط كما تريده حركات "الإسلام السياسي" موظفة العديد من النصوص لإثبات ذلك، أو في الوجه العلماني المقابل الذي يريد بحسب اعتقاده اتباع ما أسماه "أنسنة" النص الديني والتداول الإسلامي للسياق السياسي للوصول إلى نص عام يؤسس للثقافة الإنسانية الغربية الغالبة؛ فتضيع مبادئ الدين والمظلة الشرعية للدولة الإسلامية تحت تلك المسميات والدعاوى التحديثية.
التعليقات (0)