كتاب عربي 21

محنة الإخوان وهزل الانشقاق.. خرق وانتهاك

حسن أبو هنية
1300x600
1300x600
تعاقبت على جماعة الإخوان المسلمين في مصر منذ تأسيسها على يد الإمام حسن البنا عام 1928، أطوار عديدة من القمع والملاحقة والاعتقال، وتعرضت الجماعة لعمليات انشقاق وانسحاب واستقطاب متتالية، إلا أنها حافظت على نهجها الإصلاحي السلمي المدني.

 وعلى الرغم من تعرضها للمحاصرة والحظر فقد طورت الجماعة من نهجها السياسي والاجتماعي، وحسمت خياراتها الإيديولوجية تجاه الديمقراطية والتعددية والمواطنة من خلال "مبادرة الإصلاح" التي أصدرتها الجماعة في آذار/ مارس 2004، فقد بدا واضحا انشغال الجماعة بالشأن الداخلي والتزامها النهج السلمي.

محنة جماعة الإخوان الحالية في مصر هي الأشد عنفا والأوسع نطاقا، فالانقلاب العسكري المسند خارجيا على ثورة 25 يناير 2011، التي جاءت بالإخوان إلى الحكم وفق آليات ديمقراطية تمثل "إرادة الشعب" بانتخابات حرة نزيهة من البرلمان إلى الرئاسة مرورا بالدستور، بلغت حدا من الهوس والعصاب  باعتبار جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية في مصر ثم السعودية.

ظاهرة الانشقاقات، تشير إلى محنة الجماعة داخليا، فعلى الرغم من تعرض الجماعة تاريخيا للانشقاق، وهي ظاهرة تاريخية معروفة تتعرض لها سائر الحركات الإيديولوجية والدينية والاجتماعية والسياسية، إلا أنها مع الحالة الإخوانية المصرية تستحق النظر والاعتبار، فالمنشقين على اختلاف أغراضهم وأسبابهم لم يكتفوا بالخروج من الجماعة بشكل طبيعي، بل انحازوا إلى الانقلاب العسكري وباتوا جزءا اكسسواريات الأجهزة الإيديولوجية للمؤسسة العسكرية، ولا ينفكون عن مديحها والتغزل بمنجزاتها الوهمية.

على الصعيد المؤسسي برزت حركات عديدة برعاية مؤسسات الانقلاب الأمنية تدعي انتمائها التاريخي للجماعة يكاد ينحصر نشاطها في بيان مثالب "الإخوان" والتغزل بمناقب "العسكر"،  أمثال: حركة  "إخوان بلا عنف"، وهي حركة أسسها أحمد يحيى، ومن الحركات المنشقة ائتلاف "بنحب البلد دي" وقد أسسه إسلام الكتاتني، ومنها تحالف "شباب الإخوان" الذي أسسه عمرو عمارة، وقد اختار مؤخرا الدكتور كمال الهلباوي مسئولا عاما واستشاريا،  ومن الحركات المنشقة  جبهة "أحرار الإخوان".

إذا كانت معظم قيادات الحركات السابقة تقوم على مجموعة من الوجوه الشابة التي لم تشتهر بانتمائها لجماعة الإخوان المسلمين تاريخيا وإعلاميا، ويمكن فهم مسارات تأسيسها ودعمها وإسنادها من طرف قوى الانقلاب، فإن عددا من مشاهير الإخوان أعلنوا انشقاقهم عن الجماعة، أمثال: عبد المنعم أبو الفتوح، ومحمد حبيب، وإبراهيم الزعفرانى وثروت الخرباوي، ومختار نوح، وكمال الهلباوي، ومصطفى النجار، وسامح عيد، وغيرهم.

لا شك بأن أسباب وعلل الانشقاق عن جماعة الإخوان عديدة وقد يكون بعضها مبررا بسبب التحولات الفكرية والخلافات التنظيمية، إلا أن تعاملها مع الجماعة عقب الانقلاب العسكري بات كارثيا وسورياليا، وينضح بالكراهية للجماعة والسخرية من قياداتها والتحريض على كوادرها، فقد أصبح معظمهم نجوما تحتفي بهم وسائل إعلام الانقلاب وباتوا جزءا من قوى "الثورة المضادة"، وآلات موسيقة ناشزة في جوقة المشير السيسي.

المؤسسة العسكرية والأمنية التي قادت الانقلاب على جماعة الإخوان المسلمين تقوم بعمليات واسعة من التلاعب والتوظيف للمنشقين، وتقدمهم عبر أجهزتها الإعلامية الرسمية والخاصة باعتبارهم "إرهابيين تائبين" وبصفتهم خبراء في الجماعات الإسلامية، وشهودا صادقين على "فاشية الجماعة" وطبيعتها الانقلابية الراديكالية العنيفة.

ما يجمع المنشقين هو كراهية "الإخوان"، والخوف من بطش "العسكر"، والبحث عن المكانة والأمان، وتقوم سلوكياتهم على آليات "الخرق والانتهاك"، فخرق المحرمات والمقدسات التي آمنوا بها تاريخيا منذ انتمائهم للإخوان، يترجم بانتهاك العزلة الناجمة عن ترك الجماعة عبر التماهي مع أخرى يقودها السيسي، فقد أظهر فرويد في كتابه "الطوطم والحرام" أن سلوك الإنسان إزاء المحظور يتسم بالتعارض الوجداني الذي يتمثل بالخوف من الانتهاك والرغبة في الخرق، وبحسب جورج باطاي فإن موضعة المقدس ضمن أفقه غير المؤلّه يتجه في الوقت ذاته إلى البحث عن الذاتية المتفردة المنتهكة لذاتها في تجربة الأيروس، وتدنيس المقدس هو بلا ريب أنموذج "الانتهاك".

التعارض الوجداني لطائفة المنشقين استثمرته فاشية الانقلاب جيدا، فبحسب هوركهامير: "في الفاشية الحديثة، بلغت العقلنة حدّا لم تعد تكتفي معه بمجرد قمع الطبيعة بل أن العقلنة فيها صارت تستغل الطبيعة وذلك باستيعاب قوى التمرّد المحتملة في هذه الطبيعة ضمن نظامها الخاص".

يذكرنا سلوك منشقي الإخوان بمنشقي اليسار، ففي سياق الغزو الأميركي للخليج عام 1991، عبّر فريد هاليداي عن العقيدة اليمينية الجديدة التي اعتنقها، قائلا: "إذا كان لا بد لي من الاختيار ما بين الامبريالية والفاشية، سأختار الإمبريالية"، ولم يخطر بباله معارضة الخيارين عبر دعم النضالات المحلية لتحقيق الديموقراطية، وكان كريستوفر هيتشنز وهو متحوّل بريطاني آخر من اليسار إلى اليمين الإمبريالي وأحد مروجي مصطلح "الفاشية الإسلامية" عقب أحداث 11 أيلول/سبتمبر، قد كرر منطق الثالث المرفوع، والانحياز إلى الإمبريالية.

ثروت الخرباوي أحد المنشقين عن الإخوان بات خبيرا في مجال الحركات الإسلامية، ونجما ساطعا في فضاءات إعلام الانقلاب، أصدر مجموعة من الكتب في بيان الخطر الإخواني على المجتمع والدولة والعالم، فقد لفق كتبا عديدة منها "سر المعبد" و"قلب الإخوان"، وبحسب الخرباوي فإن الإخوان هي "أخطر جماعة في تاريخ الأمة الإسلامية" وهم "يمارسون الحرام بعينه" كما أن "نظامهم الخاص جيش سري"، بل إنه اكتشف أن تكوين الإخوان يقوم على نفس البنيان الماسوني، فالجماعة ماسونية هدفها تدمير الإسلام، وقد انتقد تأخر إصدار الحكومة قرارا بتصنيف الإخوان كجماعة إرهابية.

أما مصطفى النجار فقد أصبح خبيرا في الحركات الإرهابية بحسب إعلام الانقلاب، ومتخصصا في الحديث عن إرهاب حركة حماس، وهو يزعم بأن حركة حماس كانت تقتل معارضيها وتدعي أن الموساد هي من قتلهم، كما أنه ملتزم بالدفاع عن السيسي. 

كمال الهلباوي لا يدع مناسبة في إعلان البراءة من الإخوان والقدح بأتباعها وأنصارها، وبات أحد إكسسوارات الانقلاب العسكري الدائمة فقد عيّن نائبا لرئيس لجنة الخمسين "عصابة الخمسين" المكلفة بوضع دستور الانقلاب، وهو عضو في المجلس القومي لحقوق الإنسان، وهي الحقوق التي لا تشمل "الإخوان" بعد تحويلهم لإرهابيين،  والهلباوي لا يساوره الشك بعدالة الانقلاب ودستوره فهو يقول: "أنا متأكد أن أي مصري سيقرأ الدستور سيصوت بنعم، ومن سيصوت بلا إما أنه لم يقرأه من الأساس أو يسير وراء جماعته بلا عقل أو تدبر".

وبحسب الهلباوي فإن: "قيادات جماعة الإخوان المسلمين لا ترى الواقع بشكل جيد، ومن قاتل في رابعة العدوية كان يقاتل في سبيل نظام سياسي وليس من أجل الدين، وحماية الوطن ليس من أولويات الإخوان، وهم يقاتلون من أجل نظام سياسي مستورد من الغرب وليس من أجل الإسلام".

الثيمة الرئيسية لدى معظم المنشقين عن الإخوان تركز على الطبيعة العنفية للجماعة، وهي موضوعة أثيرة لدى تيار "الثورة المضادة" وقوى الانقلاب الذي شرعّن الانقلاب تحت ذريعة "الحرب على الإرهاب"، وهو حريص على تثبيت الصفة بشهادة شاهد من أهلها، فبحسب إسلام الكتاتني وهو أحد المنشقين فإن مجموعة المنشقين الأوائل من قيادات الجماعة وهم  كمال الهلباوي، ومحمد حبيب، وثروت الخرباوي، وسعيد عبد الستار المليجى، ومختار نوح، وعبد المجيد الشرنوبي، وأحمد بان، وأسامة عيد) قادوا دورا هاما في توعية الشعب المصري بحقيقة وماهية جماعة الإخوان المسلمين ووقفوا أمام نفوذ وسلطة الجماعة.
 
مناصرة المنشقين للسيسي وامتنانهم لجهوده في حفلات القتل والملاحقة والاعتقال حملت المتحدث باسم لجنة الشباب بحملة السيسي للقول: "لا مصالحة مع جماعة الإخوان المسلمين، ولكن يمكن للحملة الاستعانة بقيادات سابقة منشقة عن الجماعة، مثل ثروت الخرباوى وكمال الهلباوى وسامح عيد، لرفض فكر الإخوان الصادر بحقها قرار حكومي وحكم قضائي باعتبارها جماعة إرهابية."

لعل محاولة اختراع تاريخ عنفي للإخوان هي أبرز مساهمات المنشقين في سياق التوظيف الانقلابي للاضطراب الوجداني وفق آليات الخرق والانتهاك، فوسم الجماعة بالإرهاب لم يجد له منتصرا من لدن سائر الخبراء والمختصين بتاريخ الجماعة،  فبحسب الباحث الأميركي إريك تراجر فإنه خلال العقد الذي أعقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، غالباً ما أدى بحث المحللين الغربيين عن بديل "إسلامي معتدل" لـتنظيم "القاعدة"، إلى إرشادهم نحو جماعة "الإخوان المسلمين"، التي كانت تصريحاتها الرافضة للإرهاب واعتناقها السياسات الانتخابية راسخة.
التعليقات (0)