مقالات مختارة

رسائل معركة كَسَب إلى النظام وحلفائه و «الأصدقاء»

عبد الوهاب بدرخان
1300x600
1300x600
كتب عبد الوهاب بدر خان:تبنّت القمة العربية في الكويت خطّين للتعامل مع المسألة السورية: السعي إلى قرار دولي ملزم بوقف إطلاق النار، ودعم الاستمرار في البحث عن حلٍّ سياسي من خلال مفاوضات جنيف. وبمعزل عن مبدئية هذين الخيارين يعلم الجميع أنهما صارا متعذّرين، خصوصاً في هذه المرحلة، بعدما بلغ النظامان السوري والإيراني في «خطّة الحسم» حدّاً غير مسبوق من التهوّر والفجور العسكريين، وبعدما نسفا بالتواطؤ مع روسيا كل إمكانات واحتمالات التوصل إلى حل سياسي.

فلا تطوّرات القتال على الأرض تركت نافذة مفتوحة على أي هدنة، ولا تعقيدات الوضعين الإقليمي والدولي أتاحت ظروفاً مواتية للتفاوض. ولا يبدو أن المبعوث الدولي - العربي سمع في طهران ما يشجعه على تصوّر عودة قريبة إلى جنيف، وهذه هي الخلاصة التي انتهى إليها مَن التقوا مع الأخضر الإبراهيمي في الكويت. لكن، مع ذلك، تريد الدول العربية إبقاء المراهنة على الحل السياسي، وهذا أحد أهم أسباب تأجيلها منح «الائتلاف» السوري المعارض مقعد سورية في الجامعة العربية.

لذا، تندفع المرحلة الراهنة إلى الانغماس في الاقتتال، ومع أن انطباعاً عاماً ساد أخيراً بأن النظام وحلفاءه في صدد «الانتصار»، إلا أن ردّ مقاتلي المعارضة أعاد التوقعات إلى ما كانت عليه، أي إلى واقع أن القتال سيستمر من دون حسم حتى لو توصّل النظام إلى تحسين مواقعه الميدانية، كما حصل في القلمون. غير أن فتح معركة كَسَب والاختراق الجديد - شبه المحرّم سابقاً - لمنطقة الساحل فتحا صفحة جديدة في الصراع. فالنظام وحلفاؤه جيّروا معركة القلمون لمصلحة مشروع التقسيم و «دويلة» الساحل الممتدّة من دمشق إلى كَسَب، أما المعارضة فحوّلت استراتيجيتها إلى تعطيل هذه «الدويلة». وبعدما كان نظام الأسد ضَمِن حدود الحصول على الحدود التي رسمها لهذه الدويلة، وتهيّأ لتدعيم انتصاراته، أصبح عليه الآن أن يواجه ما استجدّ لإبعاد الخطر المتمثّل بامتداد القتال إلى الساحل، وإنهاء فترة الهدوء التي شهدها طوال العامين الأخيرين.

حصل النظامان السوري والإيراني إذاً، على «النصر» الذي بحثا عنه في القلمون بفضل مقاتلي «حزب الله»، واعتبرا أن نهاية حسم الصراع بدأت، ولم يبقَ منها سوى معارك صغيرة لإحكام السيطرة على «سورية المفيدة» المتخففة من البادية ومناطق أخرى ستفقد أهميتها متى أصبح التقسيم أمراً واقعاً، قبل أن يغدو مشروعاً يمكن القوى الخارجية أن تتقبّله، طالما أنها لم تفعل ما يتوجّب عليها للحفاظ على وحدة البلد، بل فضّلت استخدام الأزمة لإضعاف سورية وتفكيكها ملتقية في معظم الأحيان مع أهداف النظام ومصالحه. ففي سورية حصل الجميع، نظام الملالي الإيراني وروسيا وإسرائيل والولايات المتحدة وأطراف أخرى، على الحرب التي يريدونها، بفضل الأسد ونظامه.

لكن معارك كَسَب وامتداداتها في ريف اللاذقية أحدثت مفاجأة لم تتحسّب لها «خطة الحسم» الإيرانية. في البداية اعتبرها كثيرون رد فعل من فصائل المعارضة على الهزيمة القاسية في القلمون، وتذكّروا الاختراق الذي حصل بداية آب (أغسطس) من العام الماضي عندما تمكّن المقاتلون من السيطرة سريعاً على إحدى عشرة قرية هجرها سكانها على عجل لكن، أُخذ عدد منهم رهائن رفض النظام إجراء صفقة لمبادلتهم بأسرى لديه. قبل ذلك كان النظام حشد قواه واستخدم الطيران فأنهى الهجوم وانسحب المعارضون الذين اتهموا «الجيش الحر» بعدم مدّهم بأسلحة وذخائر لأنهم لم ينسّقوا معه، ولأنه لم يوافق على العملية لتعهّده لـ «الدول الداعمة» عدم مدّ القتال إلى تلك المنطقة تجنباً لمذابح طائفية.

وبمضي الساعات تبيّن أن العملية الجديدة أكثر من مجرد رد فعل، إذ قدّمت سريعاً ملامح استراتيجية وأظهرت تنسيقاً بين الفصائل على اختلاف ارتباطاتها وتنوّعها العقائدي. ثم إن اختيارها كَسَب، المنفذ الوحيد لمنطقة الساحل على تركيا، ضرب على عصب بالغ الحساسية، فالموقع يتداخل مباشرةً مع تركيا حدودياً وعمرانياً وسكانياً، وما احتفال الأتراك بإسقاطهم طائرة حربية للنظام، سوى دليل على ذلك. وبالتزامن اشتعل معظم الجبهات، بالأخص ريف اللاذقية الذي كان يعيش غلياناً واضحاً. لكن العملية ستبقى تحت الاختبار للتأكد من أن المعارضة ستتمكّن من بناء سيطرة دائمة وقادرة على صدّ أي هجوم مضاد للنظام وحلفائه. فالأكيد أن المعقل الذي اعتبره النظام محصّناً صار أمام تحدٍّ يرمي إلى إحداث «توازن» مقابل هزيمة القلمون.

فما هي الرسائل التي أطلقتها معارك كَسَب إلى النظام وحلفائه، وإلى جميع المعنيين بالأزمة السورية؟ الأولى، أن المعارضة المسلحة لا تزال رقماً مجهولاً، وقد جعلها طول الأزمة تتجذّر وتزداد تصميماً، وفيما انشغلت دوائر كثيرة بقياس مدى «إرهابيتها» أو «قاعديتها» وعدد «الأجانب» في صفوفها تناست أن جسمها الرئيسي سوري يقاتل من أجل إسقاط النظام بمعزل عن الدوافع وطنية كانت أو دينية - وطنية أو حتى دينية بحتة. الثانية، أن المعارضة استطاعت مرّات عدّة وفي مواقع عدّة، على رغم تكاثر الفصائل وتناحرها، أن تنسّق وترتبط بغرفة عمليات واحدة، كما هو حاصل في الجنوب وكما يحصل أخيراً في منطقة الساحل. الثالثة، أن مسلسل الهزائم الأخيرة أنضج لدى المعارضة شعوراً بأن «الأصدقاء» والأعداء يكادون يتساوون في الموقف منها، خصوصاً عندما يسكتون عن تدخل إيران و «حزب الله» والميليشيات العراقية لإنقاذ النظام واعتباره «أهون الشرور». الرابعة، أن القتال سيستمر، أقلّه للحؤول دون مواصلة النظام حكمه كما لو أنه لم يرتكب فظائعه المعروفة والموثّقة. فهل يستطيع المجتمع الدولي الذي تعايش مع أفغانستان عصيّة على التطبيع ومع الصومال المفكك، التساهل مع «أفغنة» سورية أو «صوملتها»؟ الخامسة، الموجهة تحديداً إلى النظام، تتعلّق بالمرحلة المقبلة ومفادها أن منطقة الساحل لن تكون بمأمن إذا كان يسعى إلى إقامة دويلته فيها. أما السادسة، التي ينبغي أن تستنتجها الدول والحكومات كافة، فهي أن تقصيرها في مقاربة جدّية لإنقاذ سورية في الوقت المناسب لم يفضِ إلى شحذ التطرف فحسب، بل سيجعل هدفَي الحفاظ على الدولة والمؤسسات، وعلى وحدة الأرض والشعب، أقرب إلى استحالتين منهما إلى طموحين.

في ظلّ وضع كهذا ستتفاقم أيضاً الظروف غير المواتية لإجراء الانتخابات الصورية بغية تمديد رئاسة بشار الأسد. وفي أي حال، لا أحد يتصوّر أن النظام يكافح للبقاء لأنه معني بإعادة إعمار سورية، بعدما أبدى بتدميرها انعداماً كاملاً لأي حسٍّ بالمسؤولية. وعلى افتراض، مجرد افتراض، أنه يريد أن يبقى ليعيد الإعمار، يكفي هنا عرضٌ لأهم الأرقام المروّعة التي توصّلت إليها مجموعات العمل في «مشروع الأجندة الوطنية لمستقبل سورية» للتعرّف إلى هول المأساة وضخامة الاستحقاقات المقبلة لأي حكم وحكومة، إذ أظهرت الأرقام أن كل يوم إضافي في الأزمة يسجّل خسارة 109 مليون دولار من الناتج المحلي الإجمالي ويعني المزيد من التراجع وصعوبة إعادة البناء، وأنه مع تسرّب 38 في المئة من الطلاب من العملية التعليمية، ووصول البطالة إلى 42 في المئة، لم يعد ممكناً التمييز بين إعادة بناء البنية التحتية وإعادة بناء المجتمع والمؤسسات. أما استمرار الأزمة فيترتّب عليه: أن تخسر سورية عشرة ملايين ليرة كل دقيقة، وأن يتهجّر 300 شخص كل ساعة، وأن يصبح 9000 شخص تحت خط الفقر الأدنى، ويفقد 2500 شخص القدرة على تأمين قوتهم كل يوم، وأن يخسر 10000 شخص عملهم كل أسبوع، وأن يُقتل 6000 شخص كل شهر، ومع كل سنة تستمر فيها الأزمة تتراجع سورية ثماني سنوات في كل المؤشرات الاقتصادية والتنموية. وفيما تشير هذه الأرقام إلى الثمن الذي يدفعه السوريون وسيحمّلونه لأبنائهم وأحفادهم، يواصل النظام حربه ويفاقم هذا الثمن، بل يريد أن يبقى.

(الحياة اللندنية)
التعليقات (0)