كتاب عربي 21

أحياناً.. خير الكلام ما قلّ أو"زال"

جعفر عباس
1300x600
1300x600
لوعدنا بالذاكرة ثلاث سنوات أو أكثر، لاكتشفنا أن الزعماء الذين طاروا في إعصار الربيع العربي، كانوا الأكثر ثرثرة، وشغفا بالمايكروفونات والكاميرات، أي أنهم، وبلغة الأدب، كانوا ينتمون إلى العصر الجاهلي، وهو العصر الذي كانت فيه القصيدة التي عليها القيمة تسمى "معلقة"، وجارى الزعماء المخلوعون روح العصر الجاهلي بالمعلقات النثرية الثرثرية.

 فقد كان الواحد منهم يرغي ويزبد لساعتين أو ثلاث دون أن يفتح الله عليه بجملة مفيدة، ولا أعرف خارج الوطن العربي زعيما جارى زعماءنا وبزّهم في ذلك المضمار، سوى الزعيم الكوبي المتقاعد فيدل كاسترو، والرئيس الفنزويلي الراحل هوغو شافيز، وكاسترو زعيم حقيقي لشعبه ولم يكتسب تلك التسمية من باب "زعم، يزعم"، بل بعرق جبينه، وكانت خطبه الجماهيرية من فصيلة المعلقات، لأنه كان لديه ما يقوله لشعبه وللولايات المتحدة التي ظلت تخطط لقتله، وجرجرة بلاده إلى حظيرة جمهوريات الموز، التي تختار واشنطن رؤساءها وأعضاء حكوماتها.

 أما شافيز فالراجح عندي أنه يحمل جينات عربية، لأن الخطبة الواحدة عنده كانت تستغرق نفس المدة التي يستغرقها حفل كامل للراحلة أم كلثوم، وكلنا نعرف أن الاستماع إلى "أقصر" أغنية لأم كلثوم يتطلب الحصول على إجازة عارضة، أو تفويت وجبة العشاء، واعتقد أيضا أن شافيز كان يتخذ من الرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري والزعيم الليبي قتيل أنبوب الصرف الصحي (القذافي) مثلا أعلى، فكلاهما كان يقدم برنامجا تلفزيونيا أسبوعيا، لا زمن محددا له يبرطم خلاله كما يشاء، وكان شافيز مثل القذافي الذي كان بدوره مثل النبع المعروف في البحرين "عين عذاري" الذي "يسقي البعيد" ولا تستفيد من مياهه الأراضي التي تطل عليه، فقد ظل شافيز والقذافي يهدران ثروات بلديهما النفطية لاكتساب شعبية عالمية، بينما كان الليبيون والفنزويليون، يعرفون فقط من وسائل الإعلام أن بلديهما يحوزان ثروة نفطية هائلة.

ومشكلة القادة العرب الذين يعشقون الثرثرة، هي أنهم يضطرون في معظم الأحوال إلى الارتجال، لأسباب مفهومة، منها أن سياساتهم تقوم على الارتجال و"زرق اليوم باليوم. 

ولكل حادث حديث"، ومنها أنهم يضمنون بذلك ما يمسى "عدم الخروج على النص"، لأن سياسة الارتجال تعني عدم وجود نص أصلا، والارتجال أخو الهرجلة و"البرجلة" في الرضاع، ولعل الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر هو مؤسس مدرسة المعلقات الجماهيرية، فقد كانت خطبه تتسم بالطول المفرط، ولكن الرأي العام المصري لم يأخذ عليه ذلك، لأنه كان "الرائد" في هذا المجال كما أسلفنا، وكان مثل كاسترو عنده ما يقوله: التأميم وحرب السويس وحركات التحرير في الجزائر واليمن الجنوبي وهزيمة يونيو حزيران 1967 و، و.. ثم خلفه السادات الذي كان يستحق الأوسكار أكثر من استحقاقه لجائزة نوبل للسلام، فقد كانت خطبه "ممسرحة"، وتتراوح نبرات صوته بين السوبرانو والألتو والتينور والميلودي، وحباه الله بحبال صوتية قوية، كان يستغلها لتقسيم الجمل إلى مقاطع يعلو فيها صوته وينخفض ويمتد ويرتد بحساب متقن لا يعرفه إلا من درس فنون العمل الإذاعي أو الدرامي (وانهالت على المسكين الشتائم بسبب إبرامه لاتفاقية كامب ديفيد، من نفس من هللوا لاحقا لكامب أريحا، وشتان ما بين الكامبين).

وفجأة ودون سابق تخطيط وتدبير وجد حسني مبارك نفسه رئيسا لمصر، ولولا خالد الإسلامبولي لما آل الأمر إليه، ومع هذا كان هو من وقع على أمر إعدام الإسلامبولي (على ذمة الأستاذ محمد حسنين هيكل فإن السادات أيضا صار رئيسا بالصدفة، فقد كان ناصر مسافرا إلى المغرب، وحسب نص الدستور كان عليه أن يعين نائبا له، فقال إن السادات "المسكين" هو الوحيد من أعضاء مجلس الثورة الذي أطاح بالملكية في مصر، الذي لم يشغل منصب نائب الرئيس، فقرر إسناد المنصب إليه لبضعة أيام، أي إلى حين عودته من المغرب، ثم عاد من المغرب ونسي الموضوع، إلى أن فاجأه الموت، بعد عودته بأيام، فكان لابد من أن تتم ترقية النائب إلى رئيس كامل الدسم). 

وكان حسني مبارك في أيامه الأولى في الحكم يعرف قدر نفسه، ولا يخاطب الناس إلا من نص مكتوب، وشيئا فشيئا "صدّق حاله"، وأنه مؤهل لشغل المنصب مدى الحياة، فبدأ يمارس ما يسميه المصريون "العك" الخطابي، بدرجة أحسب فيها أن أصحاب المعلقات السبع تململوا وتميّزوا غيظا في قبورهم: كيف لهذا العيي الأخرق أن يتفوق علينا من حيث "المدى الزمني"، وكيف جعل من خُطبِه البتراء "سوق عكاز" ينهال بها على رؤوس المواطنين، بينما كان الناس يطربون لنا في سوق عكاظ؟.

وفشار سوريا الحالي أيضا صار رئيسا بالصدفة، فلو لم يمت شقيقه باسل في حادث سيارة، لكان على أحسن الفروض مديرا لمستشفى أو وزيرا للصحة، وخلال سويعات بعد وفاة والده كان قد تم تفصيل الدستور على مقاسه (الدستور في كل بلد عربي يصنع من الكستور ليسهل قصّه وتفصيله وترقيعه)، وكان أعجب ما في الأمر ان شخصا لم يكن يحمل حتى رتبة جندي في القوات المسلحة، نال خلال دقائق رتبة فريق أول، وصار القائد الأعلى للقوات المسلحة. وأذكر أنني حرصت على متابعة أول خطاب له كرئيس لسوريا، ومن الإنصاف أن أعترف له بسلامة اللغة والنطق والمخارج، ولكنه لم يخيب ظني فيه: فقد استغرق خطابه ساعتين وربع الساعة، فصارت تلك المدة السقف الأدنى كلما خطب خطبا جسيما في الكرنفال المسمى "برلمان".

والشاهد يا قادتنا البواسل، هو أنكم المعنيون بمقولة إن السكوت من ذهب، فكلما أفرطتم في الثرثرة واللغو كلما انكشفت سوءاتكم، ولعل أحداث الأعوام الثلاثة الماضية تثبت لكم كم كان حكيما من قال: لسانك حصانك.. إن لم تصنه رفسك، وألزمك مستشفى السجن أو المنفى أو القبر.
التعليقات (0)