مقالات مختارة

إيران وخيار تقليل الخسائر في سوريا

عبد الوهاب بدرخان
1300x600
1300x600
دار جدل ساخن حول دعوة إيران مؤتمر «جنيف2» أو استبعادها، لا شك أنه كان يهمها جداً أن تكون حاضرة في هذا التجمع الدولي المعني بالمسألة السورية، ليشكل بداية ممارستها النفوذ الذي بنته شيئاً فشيئاً على مدى العقدين الأخيرين، ليس في سوريا وحدها، بل في بلدان عربية عدة أبرزها العراق ولبنان، ويمكن إضافة «دويلة» قطاع غزة إليها.

تتشابه سيناريوهات التغلغل في البلدان الثلاثة بمرتكزاتها المذهبية، ورغم وجود مجتمعات تعددية فيها توصلت إيران إلى صوغ تحالفات داخلية توفر لها إمكانات السيطرة شبه المباشرة أو غير المباشرة، أما في غزة فاستندت إلى حاجة حكم الأمر الواقع هناك إلى الموارد المالية والتسليحية لتسيير شؤونه ومواصلة المواجهة مع إسرائيل، وهو ما سمح لإيران بأن تضفي على أدوارها غلافاً أيديولوجياً مناهضاً لإسرائيل تحت شعارات «المقاومة» و «الممانعة».

وفي مختلف المواقع التي تعتبر إيران أنها نجحت في معركة «التمكين»، تمكين أجهزتها وأدواتها من التحكم بإدارة تلك البلدان، تبرز السمات ذاتها للصيغة التي اتبعتها وللنتائج التي حصدتها. إذ نجد أولاً أن هناك انقساماً عمودياً حاداً للمجتمعات، ثانياً أن شدة الصراعات جعلت البلدان المعنية تعاني من مخاطر التفكك والتقسيم، وثالثاً أن تنظيم «القاعدة» وفروعه أصبحت جزءا لا يتجزأ من المشهد، وصادفت إيران خلال مسيرة التغلغل لحظات احتكاك مع إسرائيل ومصر قبل العام 2011 ثم مع تركيا بعد ذلك العام، لكن حرب صيف 2006 في لبنان انتهت إلى هدنة مع إسرائيل لا تزال قائمة ولم تتعرض مذ ذاك لأي اختراقات جدية، ثم أن العلاقة مع تركيا مرت بفترات ذهبية قبل 2011، ثم فترت بعده بسبب الأزمة السورية إلا أنها بدأت أخيراً تستعيد حيويتها.

رغم الهدنة في لبنان، بلغ الاشتباك الكلامي بين إيران وإسرائيل نسبة عالية من السخونة على خلفية قضية البرنامج النووي الإيراني، إلا أن أحداً لم يصدق أن حرباً ستقع، لسبب واضح هو أن الولايات المتحدة وحلفاءها الرئيسيين لا يريدون هذه الحرب، ليس عجزاً عنها أو خوفاً منها ولا تغليباً لإرادة السلام، بل لأنهم لا يرغبون في حرب أخرى -بعد أفغانستان والعراق- يعرفون متى تبدأ ولا يعرفون متى تنتهي. وبعد الاتفاق النووي المرحلي في جنيف (نوفمبر 2013) بين الدول الكبرى وإيران وضع البرنامج النووي في صدد الترويض والتفكيك المتدرج، وإن استمرت طهران في القول: إنها تمكنت من الحفاظ عليه، كما أرادته، لكن ما يؤكد عكس ذلك أنها باتت الآن أكثر إلحاحاً على الشروع في الجانب السياسي من التفاوض مع الغرب، أو اختصاراً مع الولايات المتحدة. يتعلق سبب الاستعجال بمجريات الأزمة السورية التي يراد وضعها على سكة الحل السياسي، بدءاً من مؤتمر «جنيف2»، وعلى قاعدة البحث في «نقل السلطة» الذي يعني تغيير النظام بالتوافق بين طرفي النزاع.

غير أن إيران التي تسلمت منذ أوائل 2013 إدارة العمليات العسكرية، تحت عباءة نظام بشار الأسد، رسمت خططها على أساس أن النظام باق سواء بالحسم العسكري أو بتعزيز سيطرة النظام لفرض المعطيات الميدانية وموازين القوى على أي صيغة حل سياسي، بحيث يكون هذا الحل بقيادة النظام أو لا يكون، أي أن إيران تمسك بورقة تخريب الحل أو ترجيحه، ويعني ذلك أن إيران تتطلع إلى تعويض تنازلاتها في الملف النووي بمكاسب معترف بها دولياً في ملف نفوذها الإقليمي، تحديداً في سوريا. وتدرك طهران أنها لن تحصل على مثل هذا الاعتراف، إذا كان للولايات المتحدة أن تمنحه إليها، إلا بعد سلسلة من الخطوات التي يفترض أن المحادثات السرية بين الطرفين تطرقت إليها. ومنها مثلاً أن ينجز اتفاقا نوويا نهائيا قبل نهاية السنة الحالية تتعهد إيران بموجبه عدم السعي إلى سلاح نووي، وترتضي رقابة مباشرة، دائمة وصارمة، للتأكد من سلامة تنفيذها للاتفاق. ومن تلك الخطوات أيضاً أن تكون قدمت مبادرات ملموسة لتأكيد حسن سلوكها الإقليمي في التعاطي مع حل الأزمة السورية وعدد آخر من الملفات، وذلك لتسهيل التوصل إلى تفاهمات أميركية معها بشأن مختلف جوانب مستقبل العلاقة بينهما.

يفهم من ذلك أن توقيت بداية البحث عن حل سياسي في سوريا لا يناسب جدول أعمال إيران التي سعت دائماً ولم تنجح في ربط المسارين النووي والسياسي وإخضاعهما لمساومة متوازية، كما أنها تدرك جيداً أن تطبيعاً كاملاً للعلاقات مع أميركا لا بد أن يعني في نهاية المطاف تطبيعاً مع إسرائيل، وهذا الأخير هو ما سيسهل على واشنطن الاعتراف لإيران بنفوذ إقليمي، إذ لا يمكن هذا النفوذ الإيراني أن يكون في حال عداء مع إسرائيل، مثله مثل النفوذ التركي، لأن تناغم الدول الثلاث هو المرشح لأن يكون وكيلاً للولايات المتحدة ويملأ الفراغ الذي ستخلفه في المنطقة العربية بعد اتجاهها نحو آسيا لاستعادة نفوذها في مواجهة الصين، وترتكز واشنطن في استراتيجيتها هذه إلى كونها تضمن مصالحها في الشرق الأوسط والخليج، وكذلك إلى أن العالم العربي دخل مرحلة اختلال مرشحة لأن تطول بفعل تحولاته «الربيع- عربية».

في الأسابيع المقبلة سيكون على إيران أن تقرر أي استراتيجية تريد اعتمادها في مقاربة الواقع في سوريا، فهي لن تتمكن من الاحتفاظ بكل البيادق -مشاركة «الحرس الثوري» و «حزب الله» اللبناني وميليشيا «أبوفضل العباسي» العراقية- التي وضعتها على الشطرنج السوري، كما لا يمكنها المساهمة في حل سياسي بالسعي إلى الحفاظ على نظام لا يستطيع أن يحكم حتى لو استمر لبعض الوقت، وما على إيران سوى أن تكون واقعية إذا أرادت أن تقلل من خسائرها السورية.

(العرب القطرية)
التعليقات (0)