مقالات مختارة

لحوم العلماء المسمومة

علي الظفيري
1300x600
1300x600

كلما انتقدت شيخا أو داعية أو باحثا في العلوم الشرعية، تقابلك العبارة الشهيرة (لحوم العلماء مسمومة) كتهديد مستخدم بغرض الردع، حتى تصور المرء أنها عبارة للنبي عليه أفضل الصلاة والسلام، من كثرة استخدامها والتهويل المصاحب لها، ولم أكن أولي العبارة كثيرا من الاهتمام لعدة أسباب، قناعتي بحداثة مصطلح «العالم» بالشكل المستخدم في تراثنا الإسلامي، وأنه مصطلح لاحق للعهد النبوي، وبالتالي هذا الامتياز التعريفي –بالسياق المتعارف عليه– جاء بعد موت الرسول، إضافة للخلاف الكبير في تحديد من هو العالم وكيف يكون، ونتيجة الاستسهال الكبير في ضم كل أصحاب الادعاءات إلى قوافل العلماء المطلوب تحصينهم من النقد، وطغيان المظهر على الجوهر في هذه المسألة على وجه التحديد، والأهم من ذلك كله التناقض بين التخويف الذي يتضمنه هذا النهي، وثابت ديني ينص على الحرية في النقاش وعدم القداسة للأشخاص مهما كانوا، ومع ذلك فأنا أميل لموافقة العبارة فيما يتعلق بالذمم والأعراض لأنها خارج نطاق الاختلاف حول الأفكار، وهنا تمتد الحرمة لكل الأشخاص ولا يمكن تخصيص العلماء –إن اتفقنا على هويتهم- بهذه الميزة.

وعند البحث في أصل هذه العبارة، وجدت أنها من كلام الحافظ أبي القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الدمشقي، وهي عبارة فيها تعليل واستدلال ولا علاقة لها بسيدنا محمد كما يقول الدكتور سعد بن مطر العتيبي في موقع صيد الفوائد، وذلك في إجابة له على سؤال بخصوص نسبة العبارة للنبي، وقد نقل العتيبي عن الدمشقي قوله: «واعلم يا أخي وفقنا الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته، أن لحوم العلماء رحمة الله عليهم مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، لأن الوقيعة فيهم بما هم منه براء أمره عظيم، والتناول لأعراضهم بالزور والافتراء مرتع وخيم، والارتكاب لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الاغتياب وسبّ الأموات جسيم، فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم»، ومن الواضح لنا أن العبارة في السياق المنقول عن الدمشقي لها مدلول آخر غير الدارج في استخدام البعض لها في أيامنا، وبعيد عن محاولات الترهيب من مناقشة الآراء والمواقف لشخصيات معاصرة وتاريخية، وهو يؤكد ما كنا نذهب إليه في التقليل من قيمة وأهمية العبارة.

أعتقد أن الهالة القدسية التي أحاطت بالحكام ومن يسمون العلماء في تاريخنا الإسلامي، شكلت العقبة الأكبر في تطور ونهضة المجتمعات، وقد قام التحالف بينهما على تعزيز كل طرف لمكانة الآخر ونفوذه، مقابل تقاسم السلطة والنفوذ بالحدود المتفق عليها، فالحاكم يجعل من لحم عالِمهِ مسموما، ويحميه من النقد والاعتراض والمواجهة، مقابل أن يحث العالم على وجوب طاعة ولي الأمر واتباعه وعدم عصيانه، مع ملاحظة أن لحوم العلماء الآخرين من غير دائرة السلطان حلال على الجلد والسجن!، وأسهمت هذه الثنائية عبر العصور في ضبط ميزان المجتمع المسلم، وإبقاء اتجاهات الحركة فيه لصالح هذين الطرفين، وقمع كل مسار من شأنه تعكير صفو الأمور، وتهديد مصالح أي طرف من الأطراف الحاكمة، لذا كان من المهم على أي حراك باتجاه الحرية والإصلاح أن يتناول هذه العلاقة بشكل جدي، وأن يسهم في توضيح دورها وأثرها على المجتمعات ومطالبها، وأن يكشف حجم المصالح المرتبة على هذا التحالف، وكيف تُطوع النصوص لخدمة أغراض لا علاقة لها بالدين وخدمته ومحبته.

وما نشاهده في عالمنا العربي اليوم، أن هذه العملية بدأت تسير بقوة، لم يعد هناك قداسة لأحد، وبالمناسبة، فالأمر يشمل كل رجال الدين، حتى الخيرين والمصلحين والمنحازين للحق منهم، وهذا جيد بشكل أولي، فهو يضرب في عمق الوهم الذي تشكل حول دور ومهمة رجل الدين في مجتمعاتنا المسلمة، ويعيد الاعتبار للحق وللأفكار والمواقف بعيدا عن الناس وتقلباتهم وتحولاتهم، الكل اليوم على قائمة التناول والنقد والتشخيص، لا أحد فوق المحاكمة والتقييم في أيامنا، حتى إن تجاوزت الأساليب في بعض الحالات ما هو معقول، إلا أن الأمر فيه خير كثير على المدى الطويل، لم يعد يحظى أحد بما لا يستحق، الناس سواسية كأسنان المشط، وكلٌ يؤخذ منه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر، على ساكنه أفضل الصلاة والتسليم.
التعليقات (0)