أفكَار

اغتيال شيرين أبو عاقلة كخنجر في صدر مريم أو الأم تيريزا

الإعلامي الناجح لا يحتاج إلى مناصب إدارية عالية حتى يصبح نجما ساطعا في نفوس متابعيه
الإعلامي الناجح لا يحتاج إلى مناصب إدارية عالية حتى يصبح نجما ساطعا في نفوس متابعيه

أعاد اغتيال الاحتلال الإسرائيلي للإعلامية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، الجدل مجددا عن علاقة المسلمين بباقي أتباع الديانات الأخرى.. نشأ الجدل من سؤال: هل يجوز الترحم على غير المسلمين؟ وما هي معايير منح صفة الشهادة لمن يموتون في مقاومة الاحتلال؟

"عربي21"، تفتح نقاشا فكريا ليس فقط عن مقاومة الاحتلال في مختلف المرجعيات الدينية والفكرية والقانونية، انطلاقا من الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وإنما أيضا حول سؤال العلاقة بين المسلمين وباقي الأقليات في ظل الدولة الإسلامية.. 

 

                                     فيصل جلول

الكاتب والإعلامي اللبناني الدكتور فيصل جلول يستهل هذا النقاش بتسليط الضوء أولا حول الإعلام ومهمته في مقاومة الاحتلال من خلال نموذج شيرين أبو عاقلة، ثم عن خلفيات السؤال عن جواز الترحم عليها من عدمه، وتوسيع النقاش عن مخاطر التقسيمات الطائفية ليس فقط على مصير القضايا العادلة وفي مقدمتها فلسطين، وإنما عن أثره في تقسيم المجتمعات ودفعها إلى التقاتل والحروب الأهلية من خلال النموذج اللبناني..

شيرين أبو عاقلة.. الحضور المحبب

صادفت شيرين أبو عاقلة مرة واحدة في جادة الشانزيليزيه. ما عدت أذكر التاريخ، ربما في مطالع الألفية الثالثة، بادرت لتحيتها كأنني أعرفها من قبل وبادرتني بالتحية الخجولة كأنها تعرفني. قلت لها أتمنى لك إقامة ممتعة في باريس فردت بتهذيب وخجل مطابق لصورتها: شكرا دكتور. 

لا بد من الإشارة إلى أنني كنت في حينه من الضيوف شبه الدائمين حيث تعمل في فضائية "الجزيرة" وأحيانا في موقعها الإلكتروني فضلا عن فضائيات أخرى متنوعة، وبالتالي أفترض أن صحافيي المحطة أو قسما منهم على الأقل يعرفني عبر الشاشة. كنت قبل هذه المصادفة العابرة أتابع تقاريرها وكذلك تقارير زملائها في الجزيرة في فلسطين ولكل منهم دمغته الخاصة لكنهم يتمتعون جميعهم بمواصفات مهنية عالية المستوى ولا غرو في أن تأثيرهم وأنشطتهم تُعوّضُ إلى حد كبير تواضع الإعلام الرسمي الفلسطيني، وتُهِمَّشُ أدوار محطات عربية وأجنبية تهتم بتصنيف إسرائيل وضحاياها الفلسطينيين ضمن قدر متساو من التغطية.

قد لا أشرد عن الواقع إن قلت أن الحضور المحبب لهذه الإعلامية في ضمير الرأي العام الفلسطيني والعربي ناجم ليس فقط عن أهمية دورها المهني وإنما أيضا عن ذلك الحزن الصامت والغضب المكبوت الذي كان يميز تقاريرها الصحافية فضلا عن شجاعتها وعقلانيتها في الآن معا. لم أرها يوما تنطق بخفة أو بنبرة عالية أو تتفوه بعبارات دعاوية من دون أن يعني ذلك أن أقوالها كانت تمر على المشاهدين مرور الكرام.

شيرين أبو عاقلة برهنت من خلال عملها ان الإعلامي لا يحتاج الى مناصب إدارية عالية حتى يصبح نجما ساطعا في نفوس متابعيه، يكفي فقط أن يكون مهنيا جيدا وشغوفا بمهنته وصادقا ومحبا للناس ومتواضعا حتى يتصدر المشهد الإعلامي، والصدارة تعني امتلاك سلطة معنوية وقدرة على التأثير والتميز. 

لفتتني في إحدى المقابلات الخاصة في ردها على سؤال عن مدى موضوعية "الجزيرة" في التغطية الصحافية فردت بسؤال بهذا المعنى: هل تعتقد أن وسائل الإعلام في كل أنحاء العالم يمكن أن تكون موضوعية مئة بالمئة. أنا أعتقد أن لكل وسيلة خطها السياسي. الرد يُشخِّصُ الحالة العامة لوسائل الإعلام من دون استفزاز ومن دون تنكر للقناة التي تعمل فيها.

في مقابلات أخرى كانت تتجنب العجرفة والتعالي والمبالغة فقد أكدت مرارا أنها تخاف أيضا من جنود الاحتلال وأنها لا تتهور لكنها تمارس عملها مع مخاطرة محسوبة.

تفكيك المعقد

وعلى الرغم من أن وسائل الإعلام المرئية لا تتيح مقاربة مواضيع معقدة فإن أبو عاقلة كانت تعتمد التبسيط وتفكيك المعقد وإعادة إرساله على البث المباشر بنجاح مبهر وهذا ما نلاحظه من آخر تقاريرها حول النكبة. ولن اأفاجأ لو علمت أن تأثير تقاريرها كان يتسرب إلى الغرب.

الوجه الآخر لهذه الإعلامية الرائعة يكمن في الامتناع عن الإشارة إلى انتمائها الديني ليس خوفا من محيطها الإسلامي وإنما على الأرجح لاعتقادها أن القضية الفلسطينية قضية وطنية وتستدعي التمسك ببعدها الوطني وتجنب الحديث الطائفي الذي يفضله الاحتلال ويهتم بتقديمه نحو الواجهة لتفكيك القضية  وجعلها قضايا طائفية ومذهبية. لقد فوجيء الرأي العام بانتمائها إلى الطائفة الكاثوليكية وكان الظن الغالب عند الجميع أنها مسلمة.

وفاجأتنا شيرين أيضا بجنسيتها الأمريكية. ما نعرفه عن زملاء كثر في المهنة أنهم يتظاهرون بحصولهم  على الجنسيات الغربية للتميز أو للإشارة إلى أنهم محميون ويحتلون مرتبة أفضل من مرتبة مواطني بلدهم. لم تشهر أبو عاقلة هذا الجانب أبدا ،على أهميته في عملها، في ظل سلطة احتلال تستمد قوتها الأساسية من الدعم الامريكي والسطوة الأمريكية في الشرق الأوسط والعالم.

لم نر شيرين أبو عاقلة يوما متبرجة أثناء تغطيتها للأخبار. كانت تكتفي بقدر من المساحيق الضرورية  للضوء وتقنيات الكاميرا وذلك بخلاف إعلاميات معظم المحطات اللبنانية أو الخليجية اللواتي يظهرن على الشاشات وكأنهن قد انتقلن من سهرة راقصة إلى الاستديو مباشرة أو سينتقلن بعد نهاية الأخبار إلى حفل استقبال وعشاء مخملي. وإذ نعقد مقارنة بينها وبين صحفيات "الموضة" نلاحظ التزاما صارما من جهتها بقواعد المهنة وظروف العمل في بلد يقع تحت الاحتلال ويخضع أهله للتمييز العنصري وهذا الالتزام من طرفها يزيدها حضورا وتأثيرا ويزيد صوتها انطلاقا نحو الأقاصي.

لكن الأهم هو عمق معرفتها وخبرتها في سياسات الاحتلال وخططه وإدراكها الغائر لنقاط ضعفه ومن بينها حرصه الشديد على صورته الإعلامية وذرائعه الأخلاقية وبخاصة اعتماد منطق الضحية التي      ترتكب المجازر دفاعا عن نفسها.

لقد تمكنت شيرين أبو عاقلة من دحض هذه الصورة في تقاريرها وتعليقاتها وذلك عبر وعيها لصورة "الحمل" الصهيوني التي تخفي وحشا دنيئا وتمكنها من الوسائل والتقنيات الحديثة في المعلوماتية واطلاعها اليومي وصلاتها ومصادرها المتعددة والموثوقة وبالتالي استخدامها في تفكيك صور الاحتلال وتظهيرها وزرع الأمل في صفوف شعبها. وما يصح على شيرين في هذا الحقل يصح إلى هذا الحد أو ذاك على القسم الأعظم من زملائها الفلسطينيين في الجزيرة وفي عدد من المحطات الفضائية.  

أما حضورها على وسائل التواصل الاجتماعي فهو يعلي مقامها. ويمكن لمن يرغب العودة إلى صفحاتها على تويتر وفيسبوك ليكتشف شخصية فريدة وحذرة من الانخراط في سجالات هابطة المستوى أو متدنية عدا عن أن القسم الأكبر من مداخلاتها وتعليقاتها يتصل بالاحتلال ومعاناة الشعب الفلسطيني اليومية.

في المحصلة تتجمع صورة لهذه الإعلامية هي أقرب إلى صورة الراهبة أو المتدينة بدين الأخلاق والقيم الإنسانية والرقي الاجتماعي والخجل النسائي ذو السطوة المحببة. لذا كان اغتيالها أشبه بطعنة خنجر في صدر مريم العذراء أو الأم تيريزا. 

اغتيال مكتمل الأركان

لقد تعرضت شيرين أبو عاقلة لعملية اغتيال مكتملة الأركان يصعب نفيها بل يمكن القول إن الاغتيال كان متعمدا إلى حد يوحي بأن تل أبيب ما عادت قادرة على تحمل الدور الذي تلعبه هذه الصحفية ويلعبه زملاؤها في حماية القدس وصمود أهلها. بل يمكن القول إن قتلتها كانوا يريدون ترهيب كتيبة الصحافيين المدافعين عن أهلهم والذين يحتلون الشاشات العربية وأحيانا العالمية معطلين وسائل المحتل وذرائعه وألاعيبه الدنيئة. ولا أستبعد أن يكون المحتل قد صمم على نشر الرعب في صفوف الإعلاميين الفلسطينيين عبر هذا الاغتيال البشع من جهة وعبر الاعتداء على نعش أبو عاقلة من جهة أخرى.

ما يدعو للأسف أن هذا التمادي كان يمكن أن يخلق ثورة شعبية في العالم العربي قبل عقد من الزمن وقبل موجة التطبيع الأخيرة، وكان يمكن أن يتسبب بخسائر كبيرة معنوية على الأقل للمحتلين الذين افترضوا أن جريمة من هذا النوع لن تفضي الى انتفاضة عربية كتلك التي أعقبت اغتيال الطفل محمد الدرة فكان ان ارتكبوا الجريمة دون خوف من العقاب .
 
ومن غير المستبعد أيضا أن يكون المحتل قد صمم على ترهيب البقية الباقية من مسيحيي القدس عبر اغتيال شيرين أبو عاقلة وبالتالي حملهم على الهجرة لكن ردود الفعل الأولى على الاغتيال كانت مختلفة تماما فقد توحدت الكنائس في موقف فريد من نوعه منذ سنين طويلة وتوحد الفلسطينيون من كافة أديانهم وتياراتهم السياسية ليحولوا عملية الاغتيال فرصة في تصعيد المواجهة مع المحتل ونقل بشاعة جرائمه وتجريده من الذرائع الأخلاقية على المسرح الدولي ولا أبالغ بالقول إن إسرائيل لن تتمكن بعد هذا الاغتيال من تسويق صورة الضحية كما كانت تفعل من قبل، إذ ستكون لها شيرين أبو عاقلة بالمرصاد في مماتها كما كانت في حياتها.
    
أغلب الظن أن سلطات الاحتلال وربما الأجهزة الإسرائيلية السرية التي أمرت باغتيال شيرين أبو عاقلة  تعاني من عطب ازداد اتساعا بعد عملية الاغتيال التي نقلت هذه الإعلامية الراقية من موقعها  المهني على أهميته إلى موقع النجمة الساطعة بين نجوم القضية الفلسطينية الذين ينتمون إلى مختلف الطوائف والطبقات الاجتماعية فهي من الآن فصاعدا لا تقل أهمية عن غسان كنفاني وسميح القاسم ومحمود درويش واميل حبيبي وكمال ناصر وغيرهم كثر.

يبقى أن جريمة المحتل البشعة قابلها عدد من المُدّعين بالامتناع عن طلب الرحمة لأبي عاقلة لكونها غير مسلمة فأثاروا انقساما أثلج صدور القتلة وهذا ما سنتناوله في حلقة مقبلة.


التعليقات (0)