أخبار ثقافية

قبس جديد من أغاني رمضان المصرية

أجواء الاحتفال برمضان في مصر- جيتي
أجواء الاحتفال برمضان في مصر- جيتي

استكمالاً لما بدأناه العامَ الماضي، ودون مقدماتٍ طويلةٍ، نتناول عددًا من أشهر أغاني رمضان المصرية، تارِكين لكل أغنيةٍ أن تعبّر عن مُبدِعيها ورؤيتهم وجوّهم الثقافي.

* شوفوا رمضان – هدى سلطان:

 


في إيقاع ثنائي تبدأ مقدمة اللحن الذي وضعه (محمد ضياء) بحوار بين الوتريات والقانون في مقام الراست الفرِح، ليمتزج القانون مع الوتريات في تتابع نغمي يهبط مقام الراست إلى ركوزه عدة مرّات ليكرر مَطلع المقدمة مع تغير الإيقاع إلى (أيوب) رُباعي، ثم تتسلم (هدى سلطان) غناء المذهب في نفس المقام من كلمات (محمد علي أحمد): "يا ولاد حارتنا/ اتلمُّوا اتلمُّوا/ شوفوا رمضان شوفوا خفّة دمُّه/ بِرّ وتقوى/ مدفع يضرب/ طبلة ف عِزّ الليل بتدور/ على حسّها الأحباب يتلَمُّوا"، بينما ترد جوقة الأطفال على بعض الأشطر "فرحة ونور – صوم وفطور". جاءت الكلمات بسيطةً تمامًا في وزنين متعاقِبَين هما (مستفعلُن فَعِلُن فعِلاتُنْ – فَعِلُن فَعِلُن). في الغصن الأول "هاتوا الفوانيس بيضا ولامعة/ وف كل فانوس ولّعوا شمعة/ النُّور حيملا سكّتنا/ والشرّ يطلع من بيتنا/ ويالله بينا نمدح نبينا/ وكلّ مهموم يترك هَمُّه". لا يخرج الغصن الثاني عن لحن الأغنية، وإن كان يبدأ باستكشاف المقام من أعلاه إلى أسفله ليلتقي مع لحن المذهب في النهاية عند درجة الركوز.

اللازمة الثانية تقفز المقام من أسفله إلى أعلاه لتعود وتهبطه إلى الركوز. ثم تفاجئنا (سلطان) بالصعود درجةً إلى (ري) حيث تؤدي الغصن الثاني في مقام (بياتي) مواكبةً للانتقال من جو الفرح بمقدم رمضان إلى جوّ الدفء والألفة بأداء العبادات "أَدِّي فروض الصَّلا والصّوم. واعطف بقلبك عَ المحروم. واحسن وزَكِّي عن مالك. اللي تجود بيه يبقى لك"، لتعود إلى الراست في "مِنّا وإلينا/ عايد علينا/ ضُمُّوا الصفوف عَ الخير وانضمُّوا" عائدةً إلى لحن المذهب. ثم يسير الغصن الثالث على نفس لحن الثاني في قولها "رمضان شهر الخير يا كريم.. إلخ".

ولعلّ صوت (هدى سلطان) الأُمومي الحنون في قوّة ولمعان وتمكُّن واحدٌ من أنسب الأصوات لأغنيةٍ كهذه تبدأ دائمًا وتعود إلى خطاب الأطفال، لتستكشف بهم مظاهر الفرح برمضان وتعلّمهم وتعلّم الكبارَ معهم خصوصية الشهر وعباداته، كما أنّ أنسنة رمضان تبلغ في هذه الأغنية أقصى مداها حين تشير إلى خِفّة دمه، وهو ما يبدو متناسبًا مع فكرة خطاب الأطفال كذلك.

* هاتوا الفوانيس – محمد فوزي:

 


وضع (فوزي) هذا اللحن بالكامل في مقام العجَم، حيث المَطلع تؤديه الوتريات مع ظهور خاطف للقانون منفردًا، مكرّسًا الفرحة الطفولية برمضان، مفسحًا مجالاً للصفافير ولجوقة الأطفال تردد وراءه مطلع الأغنية التي كتبها (عبد العزيز سلاّم): "هاتوا الفوانيس يا ولاد/ حنزِفّ عريس يا ولاد"، حيث يتبلور إيقاع الزفّة الرباعي مع هذين الشطرين، ليتغير إلى إيقاع مقسوم سريع مواكبًا لقوله "حيكون فرحه تلاتين ليلة/ حنغنّي ونعمل هُلّيلة/ وحنشبع من حلويّاتُه". وتسترسل الكلمات في ترغيب الأطفال في محبة رمضان بذِكر الجانب الأقرب فيه للمَيل الغريزيّ للإنسان "كل حبايبه راح يعزمهم متواعدين ويّاه/ حيفطّرهم ويسحّرهم والخير جايبُه معاه/ ونغيّر ريقنا على خشاف/ والفُول راح يتّاكل حاف/ وكُنافة وقطايف بيضة/ يا ولاد والله سنَتكم بيضا" ليختتم هذا الغصن الأول أخيرًا بذِكر الصوم "والصايم يدِّيه حسناتُه"، وهو ما يبدو تدرُّجًا منطقيًّا في تعريف الطِّفل بمناسبةٍ دينيةٍ موصوفةٍ بقدرٍ من المشقّة في أدائها. ويستمر هذا النهج في الغصن التالي: "مِ العِشا راح تتلمّ صحابنا..إلخ" ليسرّب للطِّفل مفاهيم الخير الرمضاني في قوله "ويا بخت اللي يصالح صاحبه/ ويسبّق بالخير ويروح له/ إن شا الله ما يقطع لنا عادة/ ويعودُه عليكم بسعادة/ واللي يزكّي له جنّاتُه". ثم إنه يُفرد الغصن الأخير للسّحور مواكبًا حركة اليوم الرمضاني "على صوت الطبلة يصحّينا" ليُنهي الغصن بذِكر العيد وملابسه الجديدة. وفي تقديري أنّ هذه الأغنية ربما تكون الأقرب في حركيّتها كلماتٍ ولحنًا إلى مواكبة ذهنيّة الأطفال في تلقّيهم مناسبةَ رمضان.

* مرحب شهر الصوم – عبد العزيز محمود:

 


ظهرت سنة 1966 من كلمات محمد علي أحمد (شاعر أغنية شوفوا رمضان) ولحن عبد العزيز محمود. والحَقّ أنها واحدة من أوسع أغاني رمضان جماهيريةً في مصر، وبشكلٍ شخصيٍّ هي أغنيتي المفضّلة لافتتاح الشهر الكريم وتمثّل العلامة الأبرز بالنسبة لي بين أغانيه. المقدمة على إيقاع الملفوف وفي مقام الهُزام، يندلع الناي مجلجلاً هابطًا (صول - فا - مي نصف بيمول) لتجاوبه الوتريات (دو – فا)، ثم يستكمل اللعب في هذه المنطقة بين (دو – صول) مرتكزًا على درجة ركوز المقام في (مي نصف بيمول). ويتسلّم المطرب الغناء في نفس المقام ولا يخرج عنه إلا خروجًا بسيطًا في "بعد انتظارنا وشوقنا إليك/ جيت يا رمضان" حيث يعرّج على جنس الصَّبا بصفته الجنس الفرعي لمقام (بسته نكار) وهو مقام قريب للهزام، حيث يشتركان في الجذع الأساسي لهما (طبع السيكا) ويختلفان في الفرع. والحاصل أن عالَم مقامات عائلة السيكا هذه ينطق بالشوق ويجسّد الكلمات ببراعة. ويتكرر لحن المقدمة بحذافيره في القواصل بين أغصان الأغنية.

أتت الكلمات على وزن "مستفعلُن فعلُن فعلُن – فعلُن فَعِلانْ"، ويبدو لي أنّ الشاعر كتبَها أصلاً بياء النداء في الشطر الأول "مرحب يا شهر الصوم مرحب" – فهكذا يتّسق الوزن -  ثم حذفها عبد العزيز محمود استثقالاً. ويطّرد الوزن في "زيّك مافيش بين الأيام/ كلّك حسنات/ بيزيد معاك نور الإسلام/ فضل وبركات.. إلخ"

وتدور الكلمات كما هو معتاد في أغاني رمضان حول فضل الشهر وعباداته وخصوصيتها، لكنّ الفريد هو صوت الراحل عبد العزيز محمود الغنيّ بالبهجة في اتّزان واقتدار نادِرَين.

* وحوي يا وحوي – أحمد عبد القادر:

 


ظهرت فيما يُقال عام 1934 من كلمات حسين حلمي المانسترلي وألحان أحمد الشريف. وهي الأخرى واحدةٌ من أكثر أغاني رمضان ظهورًا في الإعلام المصري وتجذُّرًا في الوعي الجمعي للمصريين. الكلمات في بحر الخَبَب "فَعِلُنْ فَعِلُنْ"، ونستطيع أن نتبيّن فيها عددًا من خصائص العامّية القاهرية في تلك الفترة من القرن العشرين، فمثلاً يغلب على عبد القادر أن يكسر راء (مبارَك) في قوله "شهر مبارِك وبقى له زمان"، رغم أنّ المانسترلي أرادَها مفتوحةً بدليل اعتمادِه على مقطع (رَك) كقافية داخليةٍ حيث كرره في شطر "ما احلى نهارَك بالخير مَليان". كما نسمعُ هنا مفرداتٍ أصبح استعمالُها نادرًا في زمننا هذا بين القاهريّين، ككلمة (عال) للدلالة على الأمر الجيّد في قوله "ما احلى صيامك فيه صِحّة وعال"، وكلمة (الدار) في قوله "في الدار خيرك أشكال والوان" التي يكاد استعمالُها يقتصر على الريف المصري الآن، وكلمة (الوِصال) في قولِه "نفدي وصالك بالرُّوح والمال" وقد كانت مفردةً شاعريةً غنائيةً بامتيازٍ وقتذاك، وهجرَها الاستخدام المصريّ اليوم. بهذا تصبح هذه الأغنية التي تتجدّد مناسبتُها كل عامٍ رابطةً فريدةً بين واقع العامية المصرية وماضيها، كما تصلح شاهدًا مهمًّا لفهم تطوُّر هذه العامّيّة من خلال المفردات المُشار إليها. وثَمّ ظاهرة أخيرة متعلقة بالكلمات، هي شطر "بكرة ف عيدك نلبس فستان"، حيث يشي هذا المعنى بأنّ الأغنية كانت مكتوبةً أصلاً لتغنّيها امرأة، ومع ذلك أقدم عليها (عبد القادر).

أمّا كلمتا (وحوي) و(إيّاحة) فلا أكثر من المصادر التي تشير إلى أصلهما المصري القديم (أهلاً – قمَر)، وما أنا متأكّدٌ منه هو أنّ (إياح) تعني القمر بالفعل، ونجدهُا في اسم أم الملِك أحمس (إياح حتب) وفي اسم أحمس شخصيًّا (إياح مُس) أي ابن القمَر.

ولعلّ هذه الأغنية تكون الوحيدة التي تبدأ من توديع شعبان! ربما يكون هذا أمرًا عارضًا، وربما يحمل دلالةً على أنّ الغزو الإعلاميّ لرمضان في مصر كان حافزًا مهمًّا للتركيز على (رمضان) كمناسبةٍ مقطوعة الصّلة بما قبلها وما بعدها، فاتّجهَت قرائح شعراء الأغاني إلى مخاطبة رمضان وحدَه! هو مجرد احتمالٍ مطروح للنقاش.

جاء اللحن في مقام الهُزام المحمَّل بالشوق لرمضان مع حُلولِه، وتمامًا كلحن (مرحب شهر الصوم)، يعرّج (الشريف) على جنس الصَّبا المرتكز على درجة (نوا/ صول) في التكرار الثاني لأشطُر "ما احلى صيامك فيه صحة وعال – في الدار خيرك أشكال والوان – آه يا نَنُّوسِك فِ ليالي رمضان"، فضلاً عن الأشطر التي يختم بها كلّ غصنٍ ليعود إلى المذهب في مقام الهُزام "نفدي وصالك بالروح والمال – بكرة ف عيدك نلبس فستان – ماما تبوسِك وباباكي كمان". وهذا المسار اللحني يطرح تساؤلاً مشروعًا عن مدى تأثُّر عبد العزيز محمود بهذه الأغنية في تلحين (مرحب شهر الصوم).
أخيرًا فإنّ صوت عبد القادر الرخيم الطّلِيّ المُدَوزَن – كما يقول الموسيقيّون – يبقى علامةً خالدةً على قدوم رمضان في مصر.

* رمضان جانا – محمد عبد المطّلب:



المقدمة قصيرةٌ وضعها (محمود الشريف) في إيقاع ثنائي سريع على مقام النهاوند الرصين، فكأنه فلا يطرحنا في عُمق التجاوُب الانفعاليّ مع رمضان من البداية، وإنما يهيئنا بوقفةٍ متأمّلةٍ من بعيد. يدخل بعدها صوت عبد المطّلب شاديًا بكلمات المذهب التي كتبها (حسين طنطاوي) في بحر الخَبَب ومقام العجَم وإيقاع المقسوم. يتكرر لحن المقدمة في النهاوند، ثم يتسلّم عبد المطلب الغناء في وزن (مستفعلُن فعِلُن فَعِلُنْ): "بتغيب علينا وتهجرنا وقلوبنا معاك" على مقام الحجاز الذي يأتي مواكبًا للكلمات بما يسكنُه من حُزنٍ عاقل، ثم يتحول المقام إلى البياتي الدافئ مع "وفي السنة مرّة تزورنا وبنستنّاك – من إمتى واحنا بنحسب لك ونوضّب لك ونرتّب لك" ليعود إلى العجم في "أهلاً رمضان" وصولاً إلى المذهب من جديد. ويتكرر هذا النهج في تعاقُب مقامات (النهاوند للفواصل – الحجاز للشطر الأول من الغصن – البياتي لما بقي من الغصن – العجَم في العودة إلى المذهب) إلى أن يختم عبد المطّلب بإعادة غناء المذهب كاملاً في النهاية. 

في هذه الأغنية التي يُقال إنها سُجِّلَت لأول مرّة عام 1943 نسمع كذلك طريقةً مصريةً في نُطق الكلمات لم تعثد مستخدمةً الآن، كما في ضم باء الجَرّ حين تقترن بهاء الغائب، حيث يقول "وفرِحنا بُه"، بينما يقول المصريون الآن "وفرحنا بِيه". وهي إزاحة جديرةٌ بالدراسة، لاسيّما أنّها تطّرِد مع اقتراناتٍ أخرى للباء بالضمائر، فقد كانوا يقولوا قديمًا "فرِحنا بَكْ" بفتح الباء، بينما الآن "فرحنا بِيك".

وانتهاءً، فإنّ صوت عبد المطّلب الفخم الذي كان علامةً على الغناء الشعبي المصري في ذلك الزمن هو صوتٌ مفعمٌ بالقدرة الأدائية، لا يخطئ أبدًا، ولا تُخطَأ بصمتُه، وتشعرُ وأنت تستمعُ له - وليسامحني القارئ الكريم على استعارة اصطلاحات نظرية (ابن سينا) في الخَلق هنا - أنّ الزخارف الأدائيّة والعُرَب تصدُر عنه بالفيض، أو بالجُود!

التعليقات (1)
sandokan
الثلاثاء، 27-04-2021 06:04 م
بسمة العوفي .. ناس مُبالغ فيها '' صيام الكتابة '' تأخرت في كتابة المقال الأسبوعي، فكرت في الأمر أكثر من مرة وصديقي يحثني على كتابة المقال وإرساله، كنت في سيارة أجرة عندما تلقيت رسالة نصية منه يسأل عن المقال الجديد، وكان سائق السيارة يقود ببطء وخلفنا سيارة أخرى لا يكف صوتها، لاحقتنا ثم أصبحت جوارنا، ثم سبقتنا، بعد أن رمق سائقها سائقي بنظرة غضب، استقبلها الأخير بجملة قالها بكل هدوء "مستعجل على إيه؟ لك معاد هتوصل فيه". لا أصدق أن أشياء مثل هذه تحدث من قبيل الصدفة، خاصة في الوقت الذي أفكر فيه بكثافة في الوقت، كيف يتحول مرة إلى أرنب وأخرى إلى سلحفاة. وحولنا هوس إعلاني وإعلامي بالوقت، يحثنا دائمًا على اللحاق بالفرصة قبل أن تنتهي، أو على استرجاع ما مضى وإثارة ذكرياته وشجونه. على عكس كثير من الناس، لا أريد العودة للماضي، ولا أريد الذهاب للمستقبل، فقط أريد أن أستمتع بالحاضر وأتذوقه، لكن كيف ذلك دون ضغط مما سبق ومما هو آت؟ كيف نصوم عن التفكير في التفاهات وننزل أحمال تقطم ظهور إبداعنا؟ يقول د. محمد المخزنجي في كتابه "مداواة بلا أدوية" في فصل "العلاج بالصوم"، (والمقصود هنا الصوم عن الطعام) أن سقراط كان يصوم عشرة أيام كلما أراد حسم أمر ما، كما اعتاد المصريين القدماء صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وفق ما ذكره المؤخر هيرودوت، كما استطاعوا علاج بعض الأمراض به، وكذلك أبو قراط أبو الطب اليوناني الذي اعتاد علاج المرضى بالصوم، وكان يقول أن "كل إنسان منا في داخله طبيب، وما علينا إلا أن نساعده حتى يؤدي عمله". عندما قرأت فصل العلاج بالصوم في الكتاب، جذبتني فكرة الصيام الروحي عن متاعب الحياة، فكما يتعب الجسد من الأكل المصنع والملوث، تتعب الروح من اللهاث والركض المتواصل وراء الواقع. نحن – ككتابء تشغلنا متطلبات الحياة مثلما تشغل أي شخص عادي، لا نعيش بقوقعة زجاجية، الخبز لا يأتِ إن لم ندفع ثمنه، وهذا يجعلنا في صراع دائم طوال الوقت، هل نعمل لنشتري الخبز والكتب، أم نكتب جيدًا لعل الكتابة تعطينا بعض الربح المادي، فنشتري الخبز والكتب أيضًا؟ كتبنا خبزنا، وخبزنا كتبنا، لا نستطيع الاستغناء عن أي منهما، لأننا بشر. ولأن الأنظمة السياسية والاجتماعية لا تلتفت إلى أصحاب الأقلام، إلا إن سبّوها أو مدحوها، وما دون ذلك يُعتبر كتابة على الماء. أتوقف أحيانًا عن الكتابة، وأتوقف كثيرًا عن الحياة. كلما ذهبت أو سافرت لمكان للعمل تخطفني الكتابة منه، نهاري للعمل وليلي للكتابة. وكلما ذهبت لمكان سألت نفسي، ماذا لو جئت هنا لأجل الكتابة فقط؟ ماذا لو عشت حياتي كما أريدها فعلا، أطبق أفكاري المجنونة، أتأمل لساعات طويلة، وأعتزل البشر وقتما أريد. الاندماج وسط البشر والأحداث طوال الوقت مرهق للناس العادية، ومرهق بشكل مضاعف للكتّاب، فهم كالأطفال حالمين بسندباد يأخذهم كل يوم إلى رحلة جديدة. الحياة مثل الأم، توقظنا رغمًا عنا لنذهب إلى المدرسة. لطالما كرهت الذهاب الإجباري للمدرسة، لكننا بدونه لن نتعلم، ولطالما كرهت قطع أحلامي في منتصفها، ومنبه هاتفي الغبي، ولكني من دونه سأمضي أيامًا في النوم، لكن تلك العتمة والتشويش من التتابع الممل لروتين الحياة وإجبارها لنا، يوقعنا بالتأكيد في فخ قفلة الكاتب، التي يقول عنها المخزنجي "تلك الحالة التي يفقد فيها الكاتب قدرته علي الكتابة والرغبة فيها. يغدو الوجود لديها بلا معني. ويكون ضعيفا أضعف ما يكون .ويصير انزواؤه فيما يشبه الصندوق المحكم نوعا من الكُمُون الواقي. يتحاشي مواجهة العالم بمثل هذه الدرجة المبرحه من الضعف ويأمل أن تعود روحه إلى انتفاضها في مثل هذه السكينة والهدأة". كلما قرأت الجملة السابقة أدركت أن ما أبحث عنه هو السكينة والهدأة، ولا أجدهما إلا في صيام الروح، أو كما أحب أن أسميه صيام الكتابة، صيام من الواقع الذي يفوق قدرتنا وتحملنا كبشر، ننقي فيه أرواحنا كما ننقي أجسادنا، نصوم عن الضجيج المشتت، وعن الكتابة الرديئة، نصوم عن القبح لننتج الجمال، نصوم عن الواقع لنفطر على الخيال، نصوم قبل أن يصوم عنّا القلم. لا أعرف متى سيتحقق ذلك، لكني أطيّب خاطري بمقولة سائق التاكسي.