قضايا وآراء

التداعيات القانونية والسياسية لنقل السفارة الأمريكية للقدس

عبد الله الأشعل
1300x600
1300x600
تطور الموقف الأمريكي من قضية القدس على ضوء عاملين، الأول هو الضغط الإسرائيلي والصهيوني، حيث قررت واشنطن أن إسرائيل أدرى في المنطقة منها ومشورتها في هذه المسائل أقرب إلى التصديق مادامت إسرائيل هي الوكيل الحصري للولايات المتحدة للمنطقة ومادامت واشنطن متفقة تماما مع الصهيونية على كافة المنطلقات وأهمها أن فلسطين ملك لليهود، وأن استردادها يتم على مراحل حسب الظروف وعلى واشنطن أن تقدم التمويه الدبلوماسي اللازم من خلال ما يسمى بعملية السلام، وكذلك الضغط والخديعة بالنسبة للعرب والسلطة الفلسطينية منذ أن قامت على أساس أوسلو عام 1993. وهذه المفاهيم جميعا يعلمها الجانب العربي أيضا حكومات وشعوب كما يعلمها الجانب الفلسطيني .

أما العامل الثاني؛ فهو درجة تحكم الحكام العرب في شعوبهم وقهرهم والهيمنة عليهم وإلغاء الشارع العربي تماما من المشهد فتصبح الشعوب في جانب والحكام في جانب آخر، وهذا هو بالضبط ما وصلنا إليه في هذه المرحلة.

وفي ضوء هذين العاملين نتحدث عن تطور الموقف الأمريكي من قضية القدس.

فقد بدأ الموقف الأمريكي صلباً مع قرار التقسيم الذي يخرج القدس من الصراع ويضمن تدويلها. وفي بداية الخمسينات من القرن الماضي أصدرت الخارجية الأمريكية مذكرة تحدد فيها المركز القانوني لمدينة القدس ورفض الاعتراف باستيلاء إسرائيل على غرب القدس كما احتجت على نقل الكينيست ووزارة الخارجية ورئاسة الوزراء واتحاد العمال إليها. وعقب عدوان إسرائيل عام 1967 أكد المندوب الأمريكي في مجلس الأمن على نفس الموقف وعدم اعتراف الولايات المتحدة باحتلال شرق القدس، وهو الأمر الذي أكده قرار مجلس الأمن الشهير 242.

وعندما بدأت إسرائيل في تهويد وضم الأراضي في القدس والضفة الغربية صدر قرار مجلس الأمن عام 1968 ضد هذه الممارسات، وكان القرار الحاسم هو الذي صدر في أغسطس 1980 رقم 476، والذي أكد على الوضع القانونى للقدس كما أبطل قانون الكينيست باعتبار القدس عاصمة دائمة وأبدية لإسرائيل، وهو نفس الموقف الذي تكرس بالرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية في يوليو 2004 الخاص بالجدار العازل وكانت تلك فرصة فريدة لكي تحدد المحكمة الوضع القانوني للقدس والأراضى الفلسطينية رغم صدور خطابات الضمان الأمريكية لإسرائيل في إبريل من نفس العام خلال زيارة شارون الأخيرة لواشنطن. وهذه الخطابات قلبت الموقف الأمريكي من القضية الفلسطينية تماما.

من الواضح أن الموقف الأمريكي من القدس كان منسجما مع الموقف الإسرائيلي وأن تطور موقف الحكومة الأمريكية كان تغطية للموقف الحقيقي على الأرض. فالمعروف أن الكونجرس قد أصدر قانونا للقدس عام 1995 ثم أكده عام 2002 في الوقت الذي كانت القوات الأمريكية تتدفق على الخليج لاحتلال العراق وبعد أشهر من ضغط واشنطن على الحكام العرب لقبول ما سمى بالمبادرة العربية للسلام في قمة بيروت العربية في مارس 2002.

معنى ذلك أن الكونجرس اعتبر القدس عاصمة لإسرائيل وطلب من الرئيس نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، ولكن الرئيس له سلطة تأجيل هذا القرار كل ستة أشهر. وعندما أعلن الرئيس ترامب  في بيانه مساء يوم 5 ديسمبر 2017 أن القدس عاصمة إسرائيل وأن ذلك يخدم السلام وقرر في نفس الوقت نقل السفارة الأمريكية فوراً إلى القدس فإن بيان الرئيس ترامب قد تضمن جزأين.

الجزء الأول؛ هو أن القدس عاصمة إسرائيل، والجزء الثاني؛ وهو نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس فإن ذلك يستدعى عددا من الملاحظات لفهم هذا الموقف ودوافعه والآثار المترتبة عليه .

الملاحظة الأولى؛ هي أن الرئيس ترامب منذ لحظة ترشحة نذر نفسه لتتويج المشروع الصهيوني بقيام إسرائيل الكبرى حسبما خطط له والمقرر عام 2020، ولذلك لابد من البحث عن الآليات التي أوصلت الرئيس ترامب إلى الحكم في هذه المرحلة على خلاف كافة التوقعات وفضيحة التدخل الروسي لإنجاحه. وسوف يتضح أن روسيا لا علاقة لها بالموضوع، وأن الصهاينة هم الذين رتبوا ذلك بدليل أن كل الطاقم بما في ذلك ابنة الرئيس التي تحولت إلى اليهودية وزوجها اليهودى والسفير الأمريكي في تل أبيب اليهودى أيضا، بالإضافة إلى تصريحات ترامب  في حملته الانتخابية بالذات حول إسرائيل والتي لم تستطع المؤسسات الأخرى كما هي العادة تغيير مسيرتها.

الملاحظة الثانية؛ هي أن الموقف الأمريكي الذي يعتمد على العاملين السابقين وهما العامل الإسرائيلي والعامل العربي يتزايد اقترابه من الواقع كلما تمكنت واشنطن من الحكام العرب. وتطبيقا لذلك استدعى الرئيس ترامب الحكام العرب والمسلمين في الرياض في مايو 2017 واتخذ قراراته التي أيدها بعضهم صراحة وأيدها بعضهم ضمنا، ومنها أهم ملامح صفقة القرن التي جاء ترامب لينفذها على الأرض وهي تجريم المقاومة ضد إسرائيل والاستجابة لمطلب إسرائيل في القدس.

أما ما يقال من أن واشنطن تتزعم عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين أو السلام الدافئ، كما أراد الرئيس السيسي، فهو لا يتطابق مع حقيقة الموقف الأمريكي والعربي. ولذلك من الطبيعى أن يخطر الرئيس ترامب حلفاءه العرب بقراره بشأن القدس قبل ساعات من إعلانه، وهو ما فسر لدى هؤلاء الحكام بأنهم محظوظون باختيار الرئيس ترامب لهم. وفي ضوء ذلك لا قيمة مطلقا للدعوات التي انطلقت لستر عورات العرب والمسلمين والمتعلقة بدعوة الجامعة العربية والتعاون الإسلامي للنظر في قرار القدس وهم يعلمون جيدا أن الشعوب مقهورة والدول ممزقة والفلسطينيين في أسوأ أوضاعهم والحكام أشد اعتزازا بصداقة ترامب والتضحية بالقدس من أجل هذه الصداقة.

الملاحظة الثالثة؛ هي أن واشنطن قررت في مسألة القدس بالذات أن تتحدى قرارات الأمم المتحدة والقانون الدولي، ولذلك نتوقع أن تجاهر بأن إسرائيل لا تحتل الأراضى وإنما تستردها، وأنه وجب مساعدتها في هذه المهمة "المقدسة"، وهي واثقة بأن الحكام العرب ليس لديهم ما يقولونه ردا على ذلك.

ونتوقع في المرحلة القادمة أن تسعى واشنطن وحلفاؤها العرب إلى تغيير قرارات الأمم المتحدة لصالح إسرائيل وصفقة القرن بحيث تؤسس لشرعية جديدة مثلما فعلت في قرار التقسيم المخالف للميثاق وكذلك في تحويل الحركة الصهيونية من كونها جريمة عنصرية إلى كونها حركة تحرر وطني وتمكنت من استصدار قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة لذلك عام 1991 الذي نقض المعنى الأول في القرار الصادر عام 1975.  فالظروف السياسية مهيأة للولايات المتحدة بتطويعها الكامل للمنطقة العربية والإسلامية وكذلك تحول بعد الدول العربية من معارض لإسرائيل إلى جلب التأييد لمصالحها في المحافل الدولية، وقد رأينا ذلك بوضوح في سلوكيات بعض الدول العربية.

أما روسيا، فلا يتوقع أن تعارض هذا المسعى الأمريكي في مجلس الأمن، وإن كانت موسكو قد انتقدت قرار ترامب لأن القضية الفلسطينية لم تعد تهمها وإنما يهمها إسرائيل التي تنسق معها في سوريا وغيرها أي أن واشنطن الآن تستطيع أن تغير مرجعيات القضية الفلسطينية في الجمعية العامة وفي مجلس الأمن إذا بذلت جهودا جادة خاصة وقد اتضحت معالم سياساتها وهي إحلال الصراع العربي الإيراني محل الصراع العربي الإسرائيلي بحيث تصبح إسرائيل هي التي تتقدم الصف العربي ضد إيران خدمة للمصالح الأمريكية والإسرائيلية وضد المصالح العربية.

الملاحظة الرابعة هي أن إسرائيل والولايات المتحدة قد أعلنتا مرارا أن حلفاءهما هم الحكام العرب وأما الشعوب التي يخشى أن تعترض فقد تمكنت خلال السنوات الأربع الأخيرة بالتعاون مع الحكام العرب للقضاء على ظاهرة الشارع العربي الذي كان يطلق المظاهرات والاحتجاجات نصرة للقدس والمقاومة والشعب الفلسطينى وأصبحت مصالح الحكام العرب في قمع الشارع العربي متفقة مع مصالح إسرائيل والولايات المتحدة، ولذلك رأيت أن نتانياهو كان يبالغ عندما صور الشارع العربي على أنه أكبر تحدى لإسرائيل خاصة بعد أن أدت المظالم العربية الرسمية إلى كسر الشباب العربي والقضاء على حيويته ودفعه ذلك إلى الانخراط في منظمات إرهابية تضر بالأوطان العربية والإسلام وكلها لصالح إسرائيل.

الملاحظة الخامسة؛ هي أن قرار مجلس الأمن عام 1980 الذي أبطل التشريع الإسرائيلي بشأن القدس ومنع الدول من نقل سفاراتها إليها صدر بدعم أمريكى واضح، ولذلك فإن قرار الرئيس ترامب يعتبر انتهاكا صريحا للقرار والموقف الأمريكي حينذاك.

من ناحية أخرى تقود واشنطن العالم إلى إهدار القانون الدولي، ولذلك يجب على العالم أن يتصدى للموقف الأمريكي لصيانة النظام الدولي كما يجب صدور قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة لإلغاء قرار التقسيم الذي لم تحترمه إسرائيل وإبطال عضوية إسرائيل في المنظمة الدولية بسبب عدم احترامها لشروط قرار عضويتها. 

وبناءً على هذا التحليل أوصي بأمرين: الأمر الأول؛ نداء إلى أبنائنا الشباب المنخرط في المنظمات الإرهابية أن يعود إلى رشده ويتبين المؤامرة على وطنه ودينه وأن عدوه الحقيقي هو إسرائيل وليس الشيعة أو الأوطان العربية خصوصا في العراق وسوريا وغيرها، وأن تكفير الشيعة جزء من مخطط الصهيونية لصرف الانتباه والجهد عن الأقصى وكفى ما لحق بالإسلام والمسلمين من خراب وأذى وضياع آلاف الشباب في ساحات المؤامرة التي تعاظم خطرها على الأوطان ويكفي أن يرى هؤلاء الشباب التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب ضدهم وهو في الواقع يمكن تفويت الفرصة عليه بتبديد الإرهاب نفسه والتسابق إلى الحياة بكل مصاعبها خير من التسابق إلى الموت وخسران الدنيا والآخرة.

الأمر الثاني؛ هو أن الشعوب لابد أن تدرك المؤامرة والتحالف ضد الأوطان العربية، وأن تحبط الأذرع الإعلامية والدعائية التي تصرف الانتباه عن المعركة الأساسية، وهي أن إسرائيل هي السرطان وأن القدس ضحية الجهل والمؤامرة.

كذلك لا يفوتني أن أوجه نفس النداء إلى الشعوب في أوروبا والولايات المتحدة، فالمؤامرة على القدس وعلى الوطن العربي سوف تؤدي إلى مزيد من السخط على ما تتمتع به هذه الشعوب من أمن واستقرار ولن تسلم من ألسنة اللهب التي سوف تطالها ولتكن رقيبا على حكوماتها في هذه المنطقة لأن التحالف مع إسرائيل بكل ما يمثله من شرور يجر العالم كله إلى الفناء فعليهم أن يدركوا مخاطر ترك حكوماتهم في هذه المؤامرة والتماهي مع بعض الحكام العرب لتمكين إسرائيل من كتابة الفصل الأخير من مأساة فلسطين، وهو بعون الله سيكون مسمارا  في نعش الحركة الصهيونية والحكام المستبدين في المؤامرة على العرب والمسلمين في أوطانهم وشبابهم فهي لعنة القدس.
التعليقات (0)