قضايا وآراء

الحرية المقدسة في الدين

أحمد أبو رتيمة
1300x600
1300x600

في آية القرآن الشهيرة "لا إكراه في الدين"؛ يذكر عدد من المفسرين عن سبب نزولها أن رجلا من الأنصار كان له ابنان، فتنصرا قبل بعثة النبي، ثم قدما المدينة في نفر من النصارى، فأتاهما أبوهما، فلزمهما وقال: والله لا أدعكما حتى تسلما، فأبيا أن يسلما، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أيدخل بعضي النار وأنا أنظر؟ فأنزل الله هذه الآية: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي".

 

 

فحرية الإيمان والكفر ليست في العلاقات الأفقية بين الناس
أو علاقة الحاكم بالمحكوم، بل تذهب إلى مدى أعمق

 


هذا التفسير مفيد في مقاربة قضية الحرية في القرآن، إذ يضيف عمقا إلى عمق المبدأ الذي يتضمنه نص الآية. فحرية الإيمان والكفر ليست في العلاقات الأفقية بين الناس أو علاقة الحاكم بالمحكوم، بل تذهب إلى مدى أعمق، وهو حرية الإنسان حتى في الاستقلال عن قرار أبويه ومسارهما في الحياة. وهو معنى يبدو عسير التقبل تحديدا في ثقافة تنظر إلى الولد أنه ملحق بأبيه، وأحد أشيائه التي يفاخر الناس بها، فيتدخل الأب في قرارات الابن، مثل التخصص الجامعي، وشريكة الحياة، ومن يوالي ومن يعادي، فكيف يرضى بمخالفة ولده له في الدين الذي هو من أكثر القضايا حساسية في مجتمعنا؟


ومما يزيد من حرج تقبل مبدأ حرية الابن عن أبيه؛ أن تسلط الأب ينبع من عاطفته الإنسانية، كما تبدو مقولة الأنصاري مفعمة بالشفقة: "أيدخل بعضي النار وأنا أنظر؟"، وليس مثل علاقات التسلط الأخرى التي تهدف إلى قهر الإنسان بدافع الانتقام منه، لكن القرآن لا يتفهم العاطفة الأبوية في هذا السياق؛ لأنها تضر بمبدأ أكثر أصالة، وهو أن يكون الإنسان ذاته، وأن يتخذ قراره بمحض إرادته، فيكون قرارا معبرا عن ذات صدره دون أي شبهة تأثير خارجي.

 

 

الحرية لم ترسخ في بيئتنا الثقافية، فقد تولدت
نقاشات عن المفاضلة بين الحرية والاستقرار

 

 

ولأن الحرية لم ترسخ في بيئتنا الثقافية، فقد تولدت نقاشات عن المفاضلة بين الحرية والاستقرار، وتورط كثير من المثقفين في الانحياز إلى أنظمة مستبدة تصادر حريات شعوبها؛ بدعوى أن هذه الأنظمة صمام أمان واستقرار، أو أنها تنتصر للقضايا القومية. لكن موقع الحرية لا يمكن مقايضته بأي ثمن مقابل، فالحرية مثل الحياة لا تقايض بغيرها، بل إن الحرية هي الحياة؛ لأن الإنسان لا يكتمل إلا بحريته، ومن سلبت منه حريته صار كائنا مشوها يتنازعه الشركاء فيعيش حياة باهتة دون عمق وهوية..

الحرية ليست مجرد قيمة جميلة يشيد الدين بها، بل هي الشرط الضروري الذي لا يكون الدين إلا بها، ذلك أن الدين هو الرقيب الداخلي على الإنسان الذي يوجهه لفعل الخير واتباع الهدى، واجتناب الشر والضلال. والدين يفاضل بين الناس وفق نياتهم الباطنة قبل أعمالهم الظاهرة. فالحكومات مثلا تسن القوانين لفرض الضرائب على الناس، ولا يهمها أن يدفع الناس راغبين أو كارهين، إذ العبرة بالعوائد المادية، أما الدين فهو يحرص على تعزيز الدافع الذاتي في الإنسان، ويأمره بالصدقة سرا وعلانية، فلا ينظر الدين إلى مقدار الصدقة المادي، بل ينظر إلى النفس التي جادت بهذه الصدقة: "فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره".. "وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم".

 

 

الدين بطبيعته ينحاز إلى الحرية لأنه يزن الناس وفق دوافعهم الداخلية

بعبارة أخرى، فإن الدين بطبيعته ينحاز إلى الحرية لأنه يزن الناس وفق دوافعهم الداخلية، بينما الحكومة بطبيعتها تضيق من الحري؛ لأن مهمتها إلزام الناس بالقانون ولو ضد رغباتهم. هذه المركزية للنية القلبية في الدين تعني أنه لا يمكن ممارسته إلا وفق إرادة حرة وقناعة ذاتية، وهو ما دفع بعض اللغويين إلى اعتبار "لا" في آية "لا إكراه في الدين" نافية وليست ناهية، أي أنها تخبرنا بطبيعة الأشياء؛ لأنك إن دفعت إنسانا إلى أفعال الدين الظاهرة تحت سلطة التهديد، فإن أحدا لا يملك سلطانا على قلوب البشر لإجبارهم على الاقتناع والطمأنينة بما لم تهتد إليه قلوبهم من تلقائها، ولذلك يؤكد القرآن دائما على ضرورة تحرير قرار الإيمان من أي وصاية خارجية، وحصر رسالة النبي محمد والدعاة من بعده في دائرة التذكير وحسب: "أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين".. "وما أنت عليهم بجبار".. "فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر".

من الآيات التي تستفز العقل: "ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا".. لكن ماذا إن لم يردن تحصنا؟

هذه الآية تلفت النظر إلى جريمة الإكراه أكثر من البغاء. بطبيعة الحال، فإن القرآن لا يمكن أن يأمر بالفاحشة، لا تلميحا ولا تصريحا، لكن فاعلية هذه الآية ربما تتضح في مجتمع علماني يقنن وجود بيوت الدعارة، مثل هذا المجتمع لم ينشئه الدين ابتداء لكنه قادر على التفاعل الإيجابي معه، فتكون رسالة المؤمن فيه ليس أن يتحول إلى شرطي فضيلة يحاسب الناس، بل أن يعزز فيهم الفضيلة باختيار ذاتي. إن الله تعالى يكره للمؤمن أن يزني، لكن جمال الفضيلة أن يفعلها صاحبها مختارا لا مكرها.

 

 

 

ما دام الفرد سيحاسب بنفسه، فهذا يقتضي أن يكون مسؤولا
عن كل أفعاله في الحياة الدنيا. والمسؤولية مشروطة بالحرية

 


يؤكد القرآن على مبدأ الحساب الفردي: "وكلهم آتيه يوم القيامة فردا".. وما دام الفرد سيحاسب بنفسه، فهذا يقتضي أن يكون مسؤولا عن كل أفعاله في الحياة الدنيا. والمسؤولية مشروطة بالحرية، فلا يعقل - مثلا - محاسبة قائد الجيش عن سقوط مدينة إن كان تلقى أمرا من الرئيس بالانسحاب. فإذا كان كل واحد فينا سيحاسب بمفرده أمام الله تعالى، فهذا يقتضي ألا يجبره أحد على فعل شيء لا يؤمن به في هذه الحياة.

 لذلك، فإن القرآن يحرض المؤمنين على التمرد على كل سلطة تصادر حرية عقولهم وضمائرهم:

- مثل سلطة السادة والكبراء ووجهاء العشيرة: "وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا"..

- وسلطة طبقة رجال الدين والفقهاء: "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله"..

- وسلطة قادة الجماهير والأقوياء: "إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ"..

- وسلطة الأبوين: "وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا". فإحسان الأبوين يجازى بالإحسان إليهما ومصاحبتهما بالمعروف، لكن ليس بإلغاء العقل واتباعهما دون بصيرة..

- وسلطة المجتمع: "إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا".. "ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير"..

- وسلطة الأنظمة القمعية: "إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَة فَتُهَاجِرُوا فِيهَا"..

إن كل هذه السلطات تنازع الإنسان لتسلب منه حريته، لكن الله لا يرخص لأحد أن يتخلى عن حريته وأن يعتذر بضعفه، ولو اقتضى الأمر منه أن يهجر وطنه: "ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها".

 

 

هناك من يتوجس من الحرية بزعم أن إعطاء الناس
حريتهم في التفكير قد تؤدي بهم إلى الكفر والضلال

 

 

هناك من يتوجس من الحرية بزعم أن إعطاء الناس حريتهم في التفكير قد تؤدي بهم إلى الكفر والضلال.. هذه الشبهة تدل بداية على شعور فوقي في نفس من يرددها على الناس، وظنه أنه وصي عليهم. فلو قادت الحرية فعلا إلى الكفر، فإن حرية الكفر مكفولة قرآنيا: "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، ولم يرض الله لأحد من عباده أن يكون جبارا في الأرض أو وكيلا على الناس ولو كان محمدا: "وما أنت عليهم بجبار".

والبديل عن منع الناس من الكفر، إن قرروا ذلك، هو أن يتحولوا إلى منافقين يبطنون العداوة للمؤمنين في سرائرهم. والنفاق أشد من الكفر؛ لأن الكفر عدو ظاهر والنفاق عدو مستتر يكيد في الخفاء.

لكن هذه الشبهة تنطوي على خلل آخر، وهو خطأ تصور معنى الكفر، فالكفر في السياق القرآني مبعثه دائما الجحود والعناد والاستكبار، فهو ليس موقفا فكريا، فلا يضل الناس لأنهم يفكرون بحرية، إنما يضل من عرف الحق يقينا ثم جحد به واستكبر لمرض في قلبه. والكفر في القرآن مرادف صم الآذان وإغلاق العقول وليس انفتاحها: "صم بكم عمي فهم لا يبصرون".. "لهم قلوب لا يفقهون بها". 

هناك فريق آخر يرون أن الحرية التي يدعو الدين إليها زائفة؛ لأن الله يقول للناس في الدينا: "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر".. لكنه يتوعد الكافرين بالعذاب الأليم. فأي قيمة لحرية تنتهي بالنار والسعير؟

أوَلا يكفي أن الله تعالى يكف أيدينا عن محاسبة الناس على كفرهم في الدنيا؟ فإن كان الكافر لا يؤمن بالآخرة، ويؤمن بالحياة الدنيا وحدها، فإن أحدا من المؤمنين لا يحق له أن يحاسبه في هذه الدنيا على اعتقاده.

أما تهديد القرآن للكافر بالعقاب على كفره، فهو صادر من سلطة علوية لها حق التصرف في ملكها كما تشاء. فما دام الإله هو الخالق والرازق، فيحق له أن يأمر عباده الذين أوجدهم من العدم أن يتبعوا دينه، أما من اختار الندية مع الإله وعانده وتكبر عليه، فليبحث له عن أرض غير أرضه، وليأكل من رزق غير رزقه، بل ليتحكم ساعة واحدة في تنظيم عمل كليته أو رئته.

لكن الله لا يتعامل مع عباده بسلطة القهر الفوقي وحدها، مع أنها حقه، بل إن طبيعة الجزاء الديني مرتبطة بالفعل ذاته، فهي من جنسه.. فكما أن النتيجة الطبيعية للكسل الفقر والنتيجة الطبيعية للظلم فقدان الأمن، فإن للكفر والظلم والفساد نتيجته الطبيعية. فمن كان في الدنيا أعمى فهو في الآخرة أعمى، ومن أوقد في صدره نار الكراهية والمقت؛ تحولت طبيعته إلى طبيعة نارية فجوزي بالنار وفاقا، ومن كان ضيق الصدر عن تقبل الحق في الدنيا؛ ألقي في النار مكانا ضيقا.

 وفي المقابل، فإن النتيجة الطبيعية لفعل الصالحات الشعور بالرضا والسلام في الدنيا، ودخول دار الرضوان والسلام في الآخرة.

 

 

الحرية تعني أن يتحمل المرء نتيجة فعله

 

 

 والحرية تعني أن يتحمل المرء نتيجة فعله، فهل يحق للكسول عن العمل - مثلا - أن يلوم الله لأنه خسر تجارته؟ وهل يحق للقاتل أن يلوم الله إذا وقف على منصة الإعدام؟ كذلك لا يحق لمن اختار طريق الجحود والظلم والإفساد عن بينة أن ينتظر نتيجة غير الذي قدمته يداه.

 إن عاقبة الحرية أن يلقى المرء جزاء من جنس عمله. 

والحمد لله رب العالمين.

التعليقات (0)