قضايا وآراء

ديمقراطية الهواجس.. تشيكيا نموذجا

حسام شاكر
1300x600
1300x600

خرجت صناديق الاقتراع التشيكية بأخبار غير محببة للاتحاد الأوروبي. فالرابح الأبرز في الاقتراع البرلماني، الذي أجري يومي 20 و21 أكتوبر/ تشرين الأول ،2017 يستعد الآن لإدارة علاقة قد تكون شائكة مع مؤسسات أوروبا الموحدة خلال ولايته المرتقبة، وهذا طبقا لمضامين رفعها في حملته الانتخابية. 

الرسالة الأهم الواردة من البلد، الذي يتوسط القارة الأوروبية، أنّ البنى الحزبية التي نهضت في الدول المتحولة عن العهد الاشتراكي لم تضرب بجذورها في الأعماق، وليس بوسعها الصمود في وجه عواصف جرفت أحزابا أعرق منها في أوروبا الغربية ذاتها، وأنّ الهواجس غير الواقعية قادرة على صناعة الحدث وفرض التحوّلات. 

الرابحون والخاسرون

"آنو"، بمعنى "نعم" بالتشيكية، هو الحزب الأول الذي بزغ نجمه في هذه الجولة الانتخابية التشيكية، وهو يمارس قدرا محسوبا من الشعبوية والديماغوجية. يشير الاختصار أيضا إلى اسم مطوّل يُفصح عن مداعبته هواجس الجمهور، فهو حزب "فعل المواطنين غير السعداء"، بما يشي بنزعة الاستثمار السياسي في روح التذمر الشعبية. يدور هذا الحزب حول زعيمه ومؤسسه رجل الأعمال المثير للجدل أندريه بابيش، الذي صعد بقوة منتزعا قرابة ثلاثين في المئة من الأصوات ليحتل 78 من أصل 200 مقعد في البرلمان، مع فوز عريض حققه في كافة مناطق البلاد.

ومن رابحي الجولة برزت النسخة التشيكية من التطرف اليميني ممثلة بحزب "الحرية والديمقراطية المباشرة" بزعامة توميو أوكامورا. اقتطع هذا الحزب قرابة 11 في المئة من الأصوات عبر حملة انتخابية فاقعة في عدائها للمسلمين، وبلغ الحد بأوكامورا أن حرّض علنا في سنة 2015 على "مقاطعة المسلمين".

جاءت حظوة أقصى اليمين متقاربة مع "حزب المواطنين الديمقراطي" الليبرالي المحافظ بزعامة بيتر فيالا، وكذلك حزب "القراصنة" بزعامة إيفان بارتوش، وهو ضمن باقة أحزاب القراصنة التي أخذت في الظهور عبر أوروبا والعالم بدءا من التجربة الأولى في السويد سنة 2006 والتي تدور حول حقوق المواطنين وحرياتهم بما في ذلك الملكية الفكرية وحماية البيانات الشخصية.

من مفارقات هذه الجولة الانتخابية أنها صعدت باليميني المتطرف أوكامورا المولود لأب ياباني وأم تشيكية، وبالفائز الأول بابيش ذي الأصل السلوفاكي وكلاهما يعارض الهجرة الآن بينما يحملان تجارب تطواف حول العالم. لكنّ المفارقة الأهم تتجسد في تقهقر أحزاب الوسط السياسي التي لم تنجح في كسب ثقة الناخبين الذين بحثوا عن بدائل مختلفة عن وجوه أمسكت بزمام الحكم منذ نهاية العهد الاشتراكي قبل 27 سنة. إنها الأحزاب التي تشكلت بعد الانعتاق من العهد الشمولي فحمل بعضها أسماء شبيهة بنظيرتها في أوروبا الغربية، دون أن تنجح في التمدد المجتمعي، بل دار بعضها حول طبقة قيادية متنفذة انتظمت ضمن شبكات مصالح.

انهارت في هذه الجولة حظوظ الديمقراطيين الاجتماعيين (يسار الوسط) الذين قادوا الائتلاف الحكومي الأخير، ففقدوا ثلثي مليون ناخب ليهبطوا إلى 7 في المئة فقط من الأصوات بعد أن تجاوزت حصتهم عشرين في المئة في جولة 2013. كما شهدت أحزاب أخرى تقليدية ضمورا ملحوظا، ومنها الحزب الشيوعي الذي فقد نصف أصواته لكنه جاء متقدما بشكل طفيف على الديمقراطيين الاجتماعيين.

ومنذ التحول الديمقراطي بعد ثورة 1989 الناعمة تعاقبت الألوان السياسية على الحكومة في براغ على نحو يحاكي لعبة الكراسي الموسيقية. تبادلت أحزاب يمين الوسط ويسار الوسط دفة القيادة، بما أورث الناخبين مللا من المشهد السياسي، وأفسح المجال لخيارات بديلة مثل أحزاب "نعم" و"القراصنة" والنسخة اليمينية المتطرفة ممثلة بحزب "الحرية والديمقراطية المباشرة".

ومع تجاوز هذه الخيارات البديلة للألوان التقليدية - غير المتجذرة أساسا – فسيكون تصنيف وجهة الحكومة المقبلة أحجية حقيقية زيادة على صعوبات تشكيلها والحفاظ على تماسكها. فحزب "نعم" الذي يضم شخصيات سياسية ومجتمعية متنافرة يتبنى مزيجا من شعارات غير نمطية يصعب صبّها في قالب تقليدي من المألوف السياسي حتى الآن. وإن أزاحت الألوان الجديدة سابقاتها التي يرى الجمهور أنها متقادمة وضالعة في الفساد؛ فإنّ تحدى الحفاظ على معايير النزاهة سيواجه أي حكومة مقبلة، فكيف إن وقف على رأسها أندريه بابيش ذاته الذي تطارده الاتهامات والشبهات منذ زمن رغم ثقته الزائدة بنفسه.

يحق لأوروبا الموحدة أن تنزعج من خيارات الناخبين التشيك في نسختها الجديدة ذات المنحى الشعبوي والديماغوجي. فحزبا "نعم" و"الحرية والديمقراطية المباشرة" يقفان ضد العقوبات على روسيا ويحظيان بصلات جيدة مع موسكو، بما يعزز الاصطفاف المتعاظم في وسط أوروبا وشرقها في خندق أصدقاء بوتين. والأهم من ذلك بالنسبة للاتحاد الأوروبي وقوف هذين الحزبين علاوة على "حزب المواطنين الديمقراطي" في معسكر الناقدين للوحدة الأوروبية، بما يعني الآن أنّ وجهة معظم التشيك باتت متحفظة على أوروبا بوضوح. 

التلاعب بالهواجس والاستثمار في الكراهية

تعاظمت في التجربة التشيكية نبرة العداء للإسلام ومناهضة المسلمين التي استوطنت الساحة السياسية وترسّخت خلال السنوات الأخيرة. وقد صدرت التعبيرات المتشنجة في هذا الشأن حتى من داخل الوسط السياسي، كما تجلى خلال تدفقات اللاجئين في السنوات الأخيرة. ففي 23 أغسطس/ آب 2016 قال رئيس الوزراء بوهوسلاف سوبوتكا للموقع الإلكتروني لصحيفة "برافو" المحلية: "ليس لدينا هنا جالية مسلمة قوية، وللأمانة لا نتمنى أيضا أن تتكون جالية مسلمة قوية هنا".

واتسعت المفارقات أحيانا للاغتراف من "نظرية المؤامرة"، إلى درجة أعرب معها رئيس الجمهورية ميلوش زيمان ذاته في مطلع 2016 عن قناعته بأنّ تدفقات اللاجئين مفتعلة وأنها من صنع الإخوان المسلمين، قائلا إنّ: "جماعة الإخوان المسلمين لا يمكنها أن تبدأ حربا على أوروبا، إنها لا تملك القدرة على ذلك، لكنها قادرة على التخطيط لموجة هجرة كبيرة والسيطرة على أوروبا بشكل تدريجي". وكان مما قاله وقتها للإذاعة التشيكية أنّ "جماعة الإخوان المسلمين تنظم هذا الغزو مستخدمة إمكانات مالية مصدرها عدد من الدول"، وفق ما نسبه إلى قادة عرب أقنعوه بهذا ولم يتردد في تصديقهم.

لم ينشب جدل مناوئ لهذه المقاربات الساذجة التي لم يأت بها أحد من قبل في الساحة السياسية الأوروبية، لكنها تطابقت مع مزاعم هشة تناقلتها مواقع دعائية عربية تتلاطم فيها المضاربات المتجاوزة للمنطق، واكتسبت فرصتها في بلد أوروبي تستبد به المضامين الإعلامية الغرائبية إن تعلّق الأمر بملفات المسلمين وشؤون السياسة الدولية.

وللمواقف الخارجة عن المألوف تقاليد في تشيكيا التي ظلت تعاني انغلاقا نسبيا عن العالم طوال العهد الاشتراكي بما أورثها منسوبا ضحلا من الاطلاع على الواقع القائم في أقاليم تبدو بعيدة. لم يكن مفاجئا مثلا أن تصدر مواقف ناشزة عن السياق الأوروبي، مثل انحياز براغ الرسمية إلى حملات العدوان العسكري التي شنها جيش الاحتلال على قطاع غزة، وتحريضها حكومة الاحتلال الإسرائيلي على حل قضية اللاجئين الفلسطينيين على "الطريقة التشيكية" التي فعلت فعلها مع أقلية السوديت الألمانية التي تم تجريدها من ممتلكاتها وتهجيرها جماعيا بكل قسوة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بموجب "مراسيم بينيش" الشهيرة.

ومع حمى التضليل والتزييف والتسطيح التي انخرطت فيها قيادة الجمهورية؛ وجد بعض السياسيين فرصتهم في محاولة كسب نقاط انتخابية بمزيد من إثارة الأحقاد ضد المسلمين مع المناداة بحظر الإسلام ومقاطعة المسلمين حسب حزب "الحرية والديمقراطية المباشرة". وقد أطلق زعيم الحزب أوكامورا شعارات حادة ضد "الأسلمة"، بأسلوب يحاكي القص واللصق من دعاية رفاقه في أحزاب أقصى اليمين الأوروبية. بدا مذهلا أن تصل حملات التسخين هذه إلى وضع ملصقات كراهية للمسلمين على سيارات الإسعاف ومرافق أخرى، في انتهاك جسيم لحصانة السيارات والمرافق ذات الطابع الإنساني.

تنسجم المؤشرات التشيكية هذه مع اتجاه ملموس في دول أوروبية عدة تمنح فرصا أفضل للدعاية اليمينية المتطرفة إن كانت الكثافة السكانية المسلمة أقل من المنسوب الأوروبي المتوسط. فنسبة المسلمين في تشيكيا شحيحة مقارنة بدول أوروبا الغربية، بما يمنح الأساطير والمبالغات عنهم هامشا أوفر للرواج لانتفاء الخبرات العميقة المتأتية من فرص التعايش. 

كما أحجمت براغ عن فتح أبوابها لاستقبال طالبي اللجوء، علاوة على أنها لم تكن مقصدا مرغوبا منهم في الأصل مقارنة مع دول أوروبية غربية مثل ألمانيا والنمسا وهولندا والبلدان الإسكندنافية. وليس بعيدا عن هذه الملابسات حازت وجوه ضالعة في صناعة الإسلاموفوبيا قبولا خاصا في تشيكيا، وتمت دعوة بعضها للحديث من منصات بارزة، ومن هؤلاء مثلا الأمريكي دانيال بايبس، أحد رواد التأجيج ضد الإسلام والقضية الفلسطينية في البيئة الأمريكية.

لذلك صلة ما بالتأثير الأمريكي الواضح في واقع تشيكيا وشقيقاتها من الأمم السلافية في وسط أوروبا وشرقها. ففي مسعاها للفكاك من إرث العهد الأحمر ارتمت العواصم الحمراء في الخانة المقابلة لها بمفعول العقيدة الليبرالية الجديدة، وبتأثير واضح من نخب نشأت في كنف برامج القوة الناعمة الأمريكية مثل "منح فولبرايت" وغيرها. انضمت هذه الدول إلى حلف شمال الأطلسي ناكثة بإرثها السابق في حلف وارسو، كما لم تتردد في الالتحاق بالولايات المتحدة في منعطفات مثل غزو العراق سنة 2003، خلافا لمواقف دول أوروبية غربية مثل فرنسا وألمانيا. شكّلت دول وسط أوروبا وشرقها ما سماها دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي آنذاك "أوروبا الجديدة"، في مواجهة وصمة "أوروبا العجوز" التي لا تلتحق بالضفة الأخرى من الأطلسي إلا بشروط.

المفارقة أنّ فكاك وسط أوروبا وشرقها من الكتلة الاشتراكية جاء باسم اللحاق بأوروبا وتحت شعارات "أوروبا أولا"، ثم اتضح أنّ النسخة الغربية الأمريكية تحظى بأفضلية خاصة. وتعاملت واشنطن مع هذه الدول على أنها ركائز لها ضمن الأسرة الأوروبية، خاصة في ملفات السياسة الخارجية، بينما تسعى موسكو ذاتها اليوم إلى نسج أواصرها القديمة مع هذه العواصم ويبدو أنها حققت نجاحا نسبيا مع المجر وبولندا. فكلما انطلقت موجة نقدية من أوروبا الموحدة صوب إحدى حكومات الوسط والشرق انتصب الخيار الروسي البديل ورقة تستقوي بها الحكومة المعنية في وجه أشقاء الأسرة الأوروبية، وباتت الجمهورية التشيكية قاب قوسين أو أدنى من هذا الانزلاق.

الوجوه بدل الأحزاب


يأتي صعود بابيش القياسي في الساحة السياسية التشيكية متناغما مع اتجاه ملموس عبر أوروبا يقضي ببروز الوجوه الفردية على حساب الأحزاب التقليدية، وقد تجلى هذا في الحالة الفرنسية من خلال نموذج ماكرون الذي بزغ نجمه فجأة بحزبه الجديد "إلى الأمام". 

تمضي الأحزاب الأوروبية في مواكبة منحى الشخصنة هذا عبر إبراز وجهها الأول في الصدارة بدل شارة الحزب وشعاراته التقليدية، وتجسّد المنحى بوضوح في المعترك الانتخابي النمساوي الذي كشف عن تحولات جارفة منتصف أكتوبر/ تشرين الأول 2017. فالشعوب التي يخامرها القلق تتطلع إلى "مسيحها المخلص" الذي يعدها بالتعامل الصارم مع هواجسها فيغترف من مفردات التأجيج التي تلامس قوالب الجمهور النمطية وأحكامه المسبقة ويتقمص روح التذمر التي تسود الناخبين.

مع هذه التحولات تتراجع جودة الحياة الديمقراطية، وتغدو مواسمها جولات للردة القيمية والارتكاس عن مبادئ نهضت الدساتير والتجارب الديمقراطية ذاتها على أساسها، بما في ذلك روح ثورة 1989 المخملية في تشيكوسلوفاكيا التي تفككت سنة 1993 بالتراضي إلى جمهوريتين تصعد فيهما اليوم خطابات التشنج وأقصى اليمين.

ملل الناخبين من المألوف السياسي

يكتسب الملل من الحالة النمطية التي ترزح تحتها الساحة السياسية قدرة تفسيرية نسبية لنتائج الانتخابات التشيكية. لم يبحث التشيك الذين يعادل تعدادهم عشرة ملايين نسمة عن بدائل سياسية بسبب ضغوط الاقتصاد، فبلادهم تشهد انتعاشا غير مسبوق مع ارتفاع صادراتها من قطاعات حيوية مثل صناعة السيارات التي أنتجت في العام الماضي مليون وثلث المليون مركبة بنمو سنوي مطرد، كما انخفضت مؤشرات البطالة إلى قرابة ثلاثة في المئة فقط. 

وما يلفت الانتباه أنّ الملفات الاجتماعية احتجبت عن النقاش الانتخابي هذه المرة، ولهذا صلة بحقيقة أنّ الفئات الضعيفة والهشة في المجتمع التشيكي تتمثل أساسا بالغجر المنبوذين؛ الواقعين على الهامش السياسي والاجتماعي والاقتصادي والذين تتركز حولهم الملفات الاجتماعية بينما لا يحظون باكتراث الأغلبية أو تقديرها.

قرر الناخبون معاقبة قيادة الحكومة والأحزاب التقليدية رغم ازدهار المؤشرات الاقتصادية، ويبدو أنّ دعاية معسكر بابيش نجحت بدرجة ما في ربط هذه النجاحات به شخصيا بالنظر إلى تقلده وزارة المالية حتى أيار/ مايو الماضي عندما أطاحت به اتهامات بالفساد. تشير هذه الحالة إلى الطابع غير الموضوعي الذي يحكم تفضيلات الناخبين في زمن تضغط فيه التحولات المتسارعة على الوعي الجمعي للمجتمعات فتأنف الثبات وتبحث عن خيارات جديدة قد تبدو متمردة.

أندريه بابيش.. أو ترامب تشيكيا

أندريه بابيش هو ترامب التشيكي تقريبا. اجتمعت لديه خصائص متضافرة منحته ثقة الناخبين، فهو من أبرز أثرياء تشيكيا بثروة تقدر بين أربعة مليارات وخمسة مليارات يورو. وهو يدير مجموعة "أغروفرت" التي تعد رابع المجموعات الاقتصادية الكبرى في البلاد وتختص بالاقتصاد الزراعي والمواد الغذائية والصناعة الكيميائية، بما منح انطباعا مزدوجا بالنجاح والاقتدار من جانب؛ والترفّع عن الاغتراف من الأموال والامتيازات العامة من جانب آخر، رغم الاتهامات التي طاردته. 

لكنّ قدرة بابيش الرأسمالية بدت قادرة أيضا على حصد الأصوات بسخاء من خلال ضخ الأموال في الدعاية المباشرة وغير المباشرة، وهي تجربة لم تكن مضمونة النجاح في ديمقراطيات أوروبية أعرق. تنطوي حالة بابيش على رأسمالية إعلامية متنفذة أيضا من خلال ملكيته وحصصه في وسائل إعلام عدة، في محاكاة لتجربة سيلفيو برلسكوني الذي صعد عبر ثنائية المال والإعلام مُزيحا الأحزاب الإيطالية التقليدية من طريقه إلى أن أطاحت به فضائحه المتراكمة التي بلغت حدا ما عاد بالوسع التهاون معه.

أما نبرة بابيش الناقدة للاتحاد الأوروبي فتتماشى مع منطق البحث عن الخصوصية تحت لافتة الوحدة التي انقشع بريقها منذ زمن. كانت سياسة توزيع اللاجئين على الدول الأعضاء في الاتحاد إحدى الملفات الحساسة التي أثارت انزعاجا في وسط أوروبا وشرقها وأضعفت ثقة الجمهور بسيادة حكوماته.

وعندما تقود الهواجس السلوك التصويتي فإنّ جمهور الناخبين لن تستوقفه ملفات ثقيلة ومشروعات فضائح محتملة، كالتي طاردت بابيش ذاته الذي تحيط به هالة من الاتهامات بالعمالة لجهاز المخابرات التشيكوسلوفاكي الأسبق إبان العهد الشيوعي وهو إن ثبت سيحرمه فرصة تولي مسؤوليات عامة بارزة، أو بتضاعف ثروته خلال تقلده وزارة المالية حتى وقت قريب عندما كان نائبا لرئيس الحكومة أيضا. وفي النهاية فإنّ بابيش هو أحد وجوه الرأسمالية التشيكية التي انتفخت في زمن الخصخصة الذي صعدت فيه طبقة انتفعت سريعا من بيع الأملاك العامة بصفة لم تتوفر فيها فرص متكافئة في مجتمع خرج للتو من الاقتصاد الاشتراكي.

ويكشف تحليل مضامين الخطاب السياسي لبابيش وحزبه أنه يتحسس اتجاهات الجمهور في كل مرحلة ويصوغ شعاراته ومقولاته بموجب ذلك. إنه التفسير المنطقي لتناقضات واضحة في خطابه السياسي من مرحلة إلى أخرى، بما في ذلك موقفه من الوحدة النقدية الأوروبية "اليورو" التي لم تنضم تشيكيا إليها بعد، أو من ملف الهجرة واللجوء. ومع هذا التأرجح المحسوب أصبح بابيش ضد الهجرة بعد أن كان معها، وهذا في بلد تتناقص فيه الأيدي العاملة بشكل فادح وترفض شركاته مزيدا من التعاقدات الخارجية الواعدة لعجزها عن استيعاب متطلبات التوسع في التشغيل.

مأزق الديمقراطية التشيكية

أظهرت هذه الجولة الانتخابية أنّ الديمقراطية التشيكية تواجه معضلات بنيوية متعددة، باتت بموجبها ترزح تحت نفوذ التمركز الرأسمالي الشديد القادر على كسب الإعلام الخاص وحشد من وجوه المجتمع أيضا؛ للانضمام إلى موجة تحوّل جديدة غير مسبوقة الطابع في هذا البلد منذ تفكيك الستار الحديدي.

ومن وجوه المعضلة صعود الشعبوية وتطبيع الحالة اليمينية المتطرفة المعادية للمسلمين بصفة تجاوزت نطاق الحزب الواقع في أقصى اليمين إلى وجوه الوسط السياسي ذاته، بمن فيهم مرشحون من يمين الوسط ويسار الوسط.

من المرجح أن تعود الانتخابات التشيكية بارتدادات على الجولات الانتخابية المقبلة في وسط أوروبا وشرقها، فلن يتردد المتنافسون على أصوات شعوبهم في استلهام العبر من المؤشرات الواردة من براغ، بما يُذكي التحولات الجارفة التي ستمنح أوروبا مع الوقت ألوانا سياسية بديلة وحافلة بالمفاجآت، سواء أنجحت الوجوه الجديدة في اختبار الحكم أم لم تنجح.

 

0
التعليقات (0)