كتاب عربي 21

للعميل أمد صلاحية ينتهي بانتهائها

جعفر عباس
1300x600
1300x600
ظللت على مدى أربعة مقالات متتالية، أحاول لفت انتباه قادتنا إلى أن الولايات المتحدة لن تكون الضامن لبقائهم على كراسي الحكم، مهما تزلفوا إليها ونافقوها، ومهما باعوا شعوبهم إرضاء لها، فسيأتي يوم تبيعهم هي فيها.

ليس بين حكامنا من خدم واشنطن وسياساتها كما فعل شاه إيران الراحل، الذي كان شاة - بالفعل وليس مجازا - في الزريبة التي أقامتها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، فهو أصلا صنيعة أمريكية، وعاد إلى السلطة بعد أن أطاح به مصدق في أغسطس/ آب من عام 1953 ممتطيا صهوة دبابات أمريكية وبريطانية، فصارت إيران طوال سنوات حكمه لسان الكماشة الشرقي، وإسرائيل لسانها الغربي في المنطقة العربية، وكان من الطبيعي أن يرضى بأن يصبح شخشيخة في أيدي الدول الغربية عموما، فقد جلس لأول مرة على عرش الطاووس بعد نفي أبيه رضا بهلوي إلى جنوب أفريقيا.

وهبَّ الشعب الإيراني ضد الحكم الشاهنشاهي في عام 1979، ومن فرط حقارته وتفاهته فقد قرر الهرب على متن طائرته الخاصة، ورفض السماح لأقرب خلصائه بالركوب معه، وتركهم ليموتوا ضربا بالنعال، أو شنقا بالحبال.

لم يكن شاه إيران يعرف أن لكل عميل أمد صلاحية، ينتهي بنهاية قدرته على الوفاء بمتطلبات العمالة، فما أن فقد سلطاته وطيلسانه، حتى تنكر له من كانوا سادته ورفضت جميع الدول الأوربية، مجرد السماح لطائرته بالهبوط في مطاراتها حتى للتزود بالوقود، فحل ضيفا على أنور السادات في مصر، ثم الملك الحسن الثاني في المغرب، ثم طار إلى البهاما والمكسيك وبنما، ولما هد المرض جسمه سمحت له الولايات المتحدة بتلقي العلاج في قاعدة عسكرية في تكساس.

ولكن ما أن احتل شباب إيرانيون السفارة الأمريكية في طهران في نوفمبر تشرين الثاني 1979، حتى طلب منه الأمريكان أن يريهم عرض أكتافه، وعاد إلى طائرته محلقا في أجواء كذا دولة وهو يصرخ: فيزا لله يا محسنين، ولكن لا "حياء" لمن تنادي، ومرة أخرى استضافه الرئيس المصري أنور السادات، ومات في القاهرة نسيا منسيا في يوليو تموز من عام 1980، ولم يمش في جنازته حتى السفير الأمريكي لدى مصر.

ديكتاتور الفلبين الراحل فرديناند ماركوس، نشأ وهو يحمل جينات العميل النموذجي للمخابرات الأمريكية، فعندما خسر والده الانتخابات البرلمانية، قام بقتل المرشح الفائز، فاعتبره الأمريكان عميلا "موهوبا"، ثم خاض معارك الحرب العالمية الثانية مقاتلا في صفوف الجيش الأمريكي، وصار بذلك مؤهلا لأن يكون ابن أمريكا بالتبني، وأغدق الأمريكان عليه الأموال حتى أوصلوه إلى سدة الرئاسة، فكافأهم بدوره بأن منحهم أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في جنوب شرق آسيا، وكان يتباهى بأن بنات الفلبين صرن يتكسبن من بيع الهوى للجنود الأمريكان.

قَتل ماركوس وسجن وشرّد كل فلبيني عارض السياسات الأمريكية، ونالت ممارساته الباطشة استحسان الرؤساء الأمريكان المتعاقبين ما بين عامي 1965 و1986، وتسببت تلك الممارسات الوحشية في حمل الشيوعيين السلاح ضد حكمه، بمسمى جيش الشعب الجديد، وظهور جبهة مورو الإسلامية في جزيرة ميندناو، وما زال التنظيمان يحملان السلاح ضد كل حكومة في مانيلا أعقبت ماركوس، فرغم أن الاحتجاجات الشعبية نجحت في إغلاق القاعدة العسكرية في الفلبين، إلا أن الحكومات التي أعقبت ماركوس ما تزال تداهن وتنافق واشنطن ولو على استحياء.

ولأن السلطة لو دامت لغيره لما آلت إليه، فقد طار ماركوس من منصبه إثر انتفاضة شعبية، ورفض الأمريكان استضافته كلاجئ، فاستقر في هاواي، ثم مسح الأمريكان الملح على جرحه وحاكموه بتهمة الفساد رغم أنهم هم من أفسده، وسقطت عنه التهم بموته عام 1989.

بتفكك منظومة الدول الاشتراكية ودخول معظم تلك الدول بيت الطاعة الأمريكي عبر بوابة الاتحاد الأوربي وحلف الأطلسي، صارت واشنطن سيدة الساحة الدولية بلا منازع، ولم تعد بحاجة إلى حلفاء وعملاء من طراز الألفية الثانية، ولهذا صارت تتصرف كما الثري "البطران" بالنعمة، يعشق هذه ويقترن بتلك لحين من الدهر، ثم تسريح بغير معروف، فزواج المصلحة لا يقوم على الاعتبارات الأخلاقية ولا يحترم تلك الاعتبارات.

وقطعا ليس المطلوب مناطحة الولايات المتحدة في ظل الأوضاع الراهنة، ولكن المطلوب هو أن تحفظ كل دولة ماء وجهها، وأن يعرف الحكام أن مسؤوليتهم الأولى هي الدفاع عن مصالح شعوبهم، والعولمة التي صاغتها واشنطن، تهدف إلى جعل جميع أقطار العالم سوقا حرة، وكل بلد يعطي السلع الأمريكية الأولوية سيكون مرضيَّاً عنه أمريكيا.

فيا حكامنا، تعاملوا مع واشنطن في مجال بيع السلع، وليس بيع الكرامة الوطنية، ولا حاجة بكم لاستذكار ما حصل لشاه إيران وماركوس الفلبين، بل تذكروا كيف أن معمر القذافي وبعد طول مكابرة وتهريج، بلغ حد أنه لم يكن يختم أي خطبة إلا بعبارة "طز في أمريكا"، اضطر في آخر سنوات حكمة إلى تسليم مستودعاته لصنع أسلحة الدمار لأمريكا التي ياما طزطزها، ولم يشفع له ذلك، عندما أحس الأمريكان أن الشعب الليبي يريد بديلا له، فطخوه برا وبحرا وجوا، ولم يجد في ليبيا الرحيبة سوى أنبوب للصرف الصحي، انصرف عبره عن الدنيا.
 
0
التعليقات (0)