قضايا وآراء

العدل.. من الخلق الفردي إلى النظام الاجتماعي

أحمد أبو رتيمة
1300x600
1300x600
"العدل" هو الماء الذي يشتاق إليه الظامئون في أوطاننا، وهو الحلم الجميل الذي يداعب مخيلة المقهورين، وقد تشكل المخيال الشعبي للمسلمين من قصص عمر وهو يحمل الزاد على كتفه لبيت من المسلمين، وهو يأخذ حق القبطي من ابن عمرو ويردد كلمته الخالدة: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟"، وهو يحاسب أمراءه على اغتنائهم في ولاياتهم.

إن مخيلاتنا مشبعة بصورة الحاكم الرباني و صلاح الدين و المهدي المنتظر و الخليفة الراشد، وكلها أسماء متعددة لحقيقة واحدة وهي أن العدل المتصور سيتحقق على يد فرد استثنائي وليس نتيجة وعي جمعي تصنعه الأمة وتحدد آلياته.

كثيراً ما تذكر كتب التاريخ مشهد العالم الذي يعظ الحاكم ويزجره حتى يرق قلب الحاكم وتذرف عيناه من الدمع فيأمر برد المظالم إلى أهلها! إننا نباهي بهذه القصص في كتبنا ومن على منابرنا ونرى فيها فضل الخليفة أو شجاعة العالم، لكن المشكلة التي تتضمنها هذه القصص هو أنها تجعل مصير أمة مرهوناً بتقلب قلب حاكم فرد، فإن قدر لهذا الحاكم أن تصيبه ساعة رقة نَعِم الناس بعدله ومكرماته، أما إذا كان مزاج الخليفة معكراً فإن على الأمة أن تسلم بقضاء الله وقدره وتصبر حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً!  

لا نلوم السلف كثيراً، فقد كانوا محكومين بثقافة عصرهم وحدود الوعي الاجتماعي في زمانهم، لكن اللوم يقع على الغافلين عن حركة الوعي البشري من أبناء اليوم الذين يريدون أن يجلبوا أنماط ذلك الزمان ومفاهيمه إلى واقعنا دون أن يراقبوا الإضافة التي أسفر عنها الوعي البشري في العلاقات الاجتماعية والأنظمة الإدارية فيردون بذلك مسيرة الحضارة على أعقابها بعد إذ هدى الله الناس لما هو أقوم وأرشد في مقاربة العدل وسد ذرائع الطغيان. 

تلك القصص الجميلة من مآثر تاريخنا تنطوي على روح خيرة، ولو أن استحضارها يكون في سياق إيجابي لاستلهام معانيها العامة واستفزاز دوافع الحركة لكان خيراً، لكن عدم التفريق بين الروح العامة في القصة وبين خصوصيات لحظتها التاريخية يحدث خلطاً فتنتصر المخيلة الجميلة على الوعي الفكري، وتتولد حركة تعاكس المسيرة التطورية للتاريخ وتحاول استنساخ نماذج الأمس في واقع اليوم دون مراعاة الفروق.

 وهذا ما حدث فعلاً، إذ إن تصور العدل كمكرمة فردية يتفضل بها الحاكم على الأمة خلق في فكر الإسلاميين مساحةً كبيرةً لمفاهيم "الثقة والأمانة والصدق وإحسان الظن" وأضعف في المقابل مفاهيم " المراقبة وتوزيع السلطات والمحاسبة والعمل النقابي"، وهي نتيجة طبيعية فالحكم على شيء فرع عن تصوره، و ما دام العدل المتخيل عبر تاريخنا يتحقق بفضائل الخليفة وزهده فإن أهم ما في إقامة العدل هو أن يصل إلى السلطة رئيس يوثق بتدينه وأخلاقه ثم يمنح الثقة والطاعة وإحسان الظن فإن بدرت منه أخطاء فإن مواجهتها تكون بالتناصح سراً وبالهمس في أذنه ووعظه لعل قلبه يرق كما كانت قلوب الخلفاء ترق من مواعظ العلماء!

العدل نظام اجتماعي يسود الأمة بحكم القانون واستناداً إلى كتلة الوعي الجمعي الحامية له فيصير قانوناً ملزماً وليس فضلاً فردياً، والحاكم وفق التصور الحديث ليس سوى موظف في جهاز الدولة لا يستطيع أن يتجاوز الصلاحيات التي يحددها له القانون، وهذه الصلاحيات ليست مطلقةً إذ إن السلطات موزعة بين أجهزة الدولة، وهذا الحاكم محاط بأجهزة رقابية تمنعه من نفسه وتسائله عن أدائه وتحقق معه إن بدر منه شبهة فساد وتجاوز.

تعدد السلطات وسيادة القانون يصير العدل نظاماً اجتماعياً مهيمناً، فيحقق ذلك ضمانةً أوثق بالتزام العدل، إذ لا يراهن على استقامة الفرد ولا تؤمن فتنته، والإنسان بطبيعته نزاع إلى الطغيان إذا أمن المحاسبة.    
 
تصح مفاهيم حسن الظن والثقة حين يتعلق الأمر بشئون الأفراد الخاصة، أما الحكم الذي هو شأن الناس جميعاً فهم شركاء فيه، ومن حقهم، بل من واجبهم أن يراقبوا ويحاسبوا ويتدخلوا لضمان مصالحهم، والحاكم هنا يجب أن يلجأ إلى الاستقامة ليس بالثقة في أخلاقه بل بتشكيل مجموعات وأحزاب وسن قوانين وإبداع أنظمة تكبح جماحه و تراقب أداءه و تحذره من تقصيره ولا تشعره بالاستغناء لحظةً فالاستغناء يؤدي إلى الطغيان.

حين تبدع الأنظمة والضمانات الجماعية في أنظمة الحكم تتراجع مركزية شخص الحاكم ولا يتوقف مسار التاريخ على مزاجه الشخصي، ومثال ترامب ذو دلالة فقد نجحت النظم والقوانين الأمريكية الراسخة في الحد من جموحه الشخصي واضطرته إلى التخلي عن كثير من شعاراته الانتخابية حتى رأينا قاضياً فيدرالياً صغيراً يبطل قراراته مستنداً إلى سلطة القانون الغالبة.

 إن قصة ترامب برهان قريب على قوة المنظومة ورسوخها في مواجهة تقلبات الأفراد وجموحهم، فهو على الصعيد الشخصي يحمل في قلبه بذرة الإفساد والطغيان مثل طغاة العرب المجرمين، وربما تمنى في نفسه لو أنه تولى الرئاسة في بلد عربي فيذوق شجرة الخلد وملك لا يبلى، ولا يحاسبه أحد ولا يوقفه قانون، لكن قوة النظام الاجتماعي والقانوني المهيمن أضعف خطره وحدد جموحه.

ثمة مبرر آخر لضرورة ترسيخ نظام اجتماعي وقانوني أكبر من مزايا الأفراد يضاف إلى الخشية من فتنة السلطة وتقلب قلب الحاكم الفرد على أهميتها، هذا المبرر يتمثل في أن الاستقامة والنزاهة ليست مسألة إخلاص وحسب بل هي مسألة وعي كذلك، فربما كان الحاكم مخلصاً، لكن النفس تمتلك قدرةً عجيبةً على تبرير أهوائها وتحركها دوافع خفية لا تخفى على الناس وحدهم، بل تخفى على صاحبها أيضاً فيضل عمله وهو يحسب أنه يحسن صنعاً، لذلك فإن من الخطر أن يترك مصير الأمة ومقدراتها رهناً لتقديرات حاكم فرد واحد حتى وإن جمع هذا الحاكم في شخصه تقوى أبي بكر وعدل عمر، فالفرد يتداخل في تحريك سلوكه خارطة معارفه وتجارب حياته وعقده الدفينة وميول نفسه المختزنة ومزاجه المتقلب فيتورط المخلصون في مظالم ومفاسد وقرارات خاطئة وهم لا يشعرون.

عرفت أناساً مخلصين إلى درجة استعدادهم للموت في سبيل الله وقد وقفوا على حدود الموت أكثر من مرة واستشهد أبناؤهم، لكن هؤلاء المخلصين أنفسهم حين شغلوا مواقع إداريةً أخفقوا في امتحان العدل والنزاهة، شكلت هذه الأمثلة لغزاً محيراً إذ كيف يقدم امرؤ روحه رخيصةً في سبيل الله ثم لا يستطيع أن يجاهد نفسه ويحملها على العدل في مواطن تتطلب تضحيةً أقل من التضحية بالنفس والولد!

عثرت لاحقاً على إجابة؛ فالتضحية بالنفس والولد معركة واضحة الوجهة محددة المعالم لذلك ينجح المؤمن فيها ويثبت صدقه، لكن التضحية بالحظوظ النفسية الخفية يتطلب وضوح هذه الحظوظ التي لا يتفطن إليها سوى الآحاد من الخليقة، لذلك ليس غريباً أن ينجح المؤمن في ميدان الصبر على الشدائد ثم يفشل في ميدان العدل وإدارة الحياة.

 تجد مثلاً من يصر على بقائه في المنصب سنوات طويلةً معللاً لنفسه ذلك بأنه يسعى من خلال موقعه إلى الانتصار للدين وهو يخشى إن خلفه غيره في هذا المنصب ألا يكون بنفس حرصه وخشيته على الدين! مثل هذا التبرير يبدو براقاً، ويغري صاحبه بتصديقه، لكن مخرجه النهائي هو ديكتاتور متشبث بالسلطة.

الحاكم العادل الفرد ليس أكثر من حلم جميل، وإقامة العدل يبدأ بتشكل حاضنة شعبية ووعي جماعي يعرف به الناس حقوقهم وواجباتهم ويبدع من الأنظمة والقوانين ما يحدد نفوذ الحاكم ويمنعه من احتكار السلطات ويفعل أدوات مراقبته ومحاسبته، فإذا أنشئ هذا النظام لم يضر بعده أن يتولى المنصب تقي أو فاجر، لأن الحاكم إن لم يستقم برغبته ألجئ إلى الاستقامة بسلطان الأمة وهيمنة القانون.

في فجر التاريخ الإسلامي وقف أعرابي في المسجد صارخاً في وجه عمر: "لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا". لقد أدرك الأعرابي باكراً موقع الأمة وأهمية رقابتها في إقامة نظام الحكم الرشيد.
2
التعليقات (2)
أحمد أبو العمرين
الخميس، 06-09-2018 09:50 ص
مقال قيّم ورؤية أتفق معها
ابو محمد
الخميس، 07-09-2017 07:50 ص
مقال في غاية الروعة نفهم مقصده. ونساله ربنا ان يحقق مراده الحق بيننا. بوركت اخي.

خبر عاجل