مقالات مختارة

لغز الملاك الخائن

عبد الله السناوي
1300x600
1300x600
"أنا لا أستطيع النوم".

كان الوقت متأخرا والصدمة تهز مشاعره بأثر ما انتهى من قراءته للتو.

هل تعرضت مصر إلى هذه الدرجة من الخيانة، التي كادت أن تلحق هزيمة مروعة جديدة بقواتها، قبل أن تشرع في عبور الجسور على قناة السويس؟

هكذا كان سؤال الدكتور "نبيل العربي"، أمين عام الجامعة العربية السابق، في ذلك المساء من صيف عام (2016) بعد أن طالع النسخة الإنجليزية من كتاب إسرائيلي صدر حديثا يحمل اسم "الملاك ـ الجاسوس المصري الذى أنقذ إسرائيل".

السؤال نفسه سوف يطرح مجددا على نطاق أوسع بعد أن شرعت شركات إنتاج أمريكية وإسرائيلية في تحويل النص المكتوب إلى شريط سينمائي، يصل إلى كل بيت عربي عبر الشبكة العنكبوتية ـ أيا ما كانت درجة الحجب، التي قد تتخذها الرقابة هنا أو هناك.

كأي سؤال تحيطه ظلال كثيفة لا يصح النفي المسبق دون أن تتوافر أدلة ووثائق، كما لا يصح الاكتفاء بالحديث عن الأهداف الإسرائيلية من هذا الشريط السينمائي، الذى يعرض خلال العام المقبل.
بطبيعة الملف فهو بالغ السرية والحساسية بتوقيته وأبطاله ومدى ما أبلغت به إسرائيل من أسرار عسكرية وسياسية قبل أن تدوى المدافع في حرب أكتوبر (1973).

"الملاك الخائن" هو "أشرف مروان" صهر الرئيس "جمال عبدالناصر" وأقرب معاوني خلفه الرئيس "أنور السادات"، حيث عمل معه سكرتيرا للمعلومات.

القصة قديمة نسبيا، فقد كشفت قبل أن يلقى "مروان" مصرعه الغامض بالسقوط من شرفة شقته في لندن عام (2007).

ألمحت تسريبات إسرائيلية إلى دوره وشخصه قبل أن تذكر بلا مواربة اسمه، ثم صدرت كتبا تروى وتكشف بعض ما جرى في الظلام من أسرار وتفاصيل شملت قصة تجنيده، وما أسداه من خدمات لإسرائيل في أوقات حرجة.

عندما شرعت الصحافة البريطانية في عرض التسريبات الأولى، منسوبة إلى "إيلى زاعيرا" مدير الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، أرسل الدكتور "خالد عبدالناصر"، النجل الأكبر للزعيم الراحل، بنفس اليوم فاكسا لصورة ذلك العرض ما زلت أحتفظ به.

كان تقديره: "إذا صحت الرواية الإسرائيلية فإن المثل البريطاني يقول إذا دخل الثعلب حظيرتك الأشرف لك أن تمسكه بنفسك".

لم تكن لديه إجابة على السؤال الخطير لكنه كان يطلب الحقيقة.

بنفس التوقيت المبكر لم يستبعد "سامى شرف"، مدير مكتب الرئيس "عبدالناصر" وأحد أخلص رجاله، احتمال تورط "مروان"، الذى عمل تحت إمرته في منشية البكري.

استبعد بالقدر نفسه أن يكون ذلك قد حدث أثناء حياة "عبدالناصر".

"لم يكن يجرؤ ثم إن عيوننا مفتوحة على السفارة الإسرائيلية في لندن، التي قيل إن مروان طرق أبوابها".

فيما بعد تبدت تناقضات في الروايات الإسرائيلية للطريقة التي جند بها "مروان" وتوقيتها ترجح ما ذهب إليه "سامى شرف".

إحدى الروايات تقول إن ذلك جرى في عام (1968) وأن "مروان" أمد الاستخبارات الإسرائيلية بمحاضر اجتماعات الرئيس المصري مع الزعيم السوفيتي "ليونيد بريجينف"، وهو ما لم تأت على ذكره روايات أخرى، قالت إنه قد جند قبل رحيل "عبدالناصر" بشهور قليلة، لكنه لم يقدم شيئا ولا شرع في العمل لصالح الاستخبارات الإسرائيلية إلا مطلع حكم "السادات" ـ على ما تضمنه كتاب "الملاك" لمؤلفه "يورى بار جوزيف"، وهو أستاذ للعلوم السياسية في جامعة حيفا وضابط سابق بالاستخبارات العسكرية.
ذلك يستدعى قراءة متأنية ومضاهاة الروايات لاكتشاف ثغراتها والمقحم فيها لأسباب سياسية ودعائية محضة لا صلة لها بالحقائق، كما جرت بالفعل.

في الروايات المتباينة ظلال نزاعات موروثة بين مدير الاستخبارات العسكرية "إيلى زاعيرا" ومدير جهاز الموساد "تسيفى زامير"، أو بين الجهازين الاستخباريين بصورة عامة.

كل جهاز يحاول أن يعظم من دوره ويكيف الوقائع لمقتضى تخفيض دور الجهاز الآخر.

غير أن كليهما له نقطة تنشين واحدة هي النيل من جهاز المخابرات العامة المصرية، تخفيضا للروح العامة وتشكيكا في القدرة على مواجهة إسرائيل واختراقها في عقر دارها وإلحاق الهزائم بها ـ كما حدث أكثر من مرة وفق روايات سجلها دراميا الكاتب الراحل "صالح مرسى" أشهرها "دموع في عيون وقحة" و"الحفار" و"رأفت الهجان" الذى لم تكشف حتى الآن قصته الكاملة.

التوظيف الدعائي الإسرائيلي لقصة "الملاك الخائن" مما هو معتاد في الأعمال الاستخباراتية لضرب ثقة الطرف الآخر في نفسه.

ليس شيئا جديدا في التاريخ أن تتعرض دولة ما لضربات موجعة، أو اختراقات في بعض مراكزها الحساسة.

دول عظمى كالولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي السابق تعرضت لمثل هذه الاختراقات أثناء الحرب العالمية الباردة وما بعدها.

مواجهة الحقيقة قضية رئيسية لسلامة الأمن القومي.

وفق "يورى بار جوزيف" فإن المصريين أضفوا صفة البطولة على أكبر خائن في تاريخهم كله.

الرئيس "السادات" منحه وساما عسكريا رفيعا لدوره في حرب أكتوبر، والرئيس «حسنى مبارك» أصدر بيانا بعد مصرعه في لندن يصفه بـ«الوطنى المخلص» وأرسل نجله الأصغر "جمال" إلى سرادق العزاء.

في لفتة إلى مصرعه قال مؤلف كتاب "الملاك": "إن المصريين هم الذين قتلوه".

الكلام خطير ويستحق التدقيق فيه.

بصياغة الأستاذ "محمد حسنين هيكل" فإن "كرامة البلد وسمعة أشرف مروان نفسه تتطلب تحقيقا رسميا مصريا في الموضوع بواسطة هيئة رفيعة المستوى تضم عناصر قضائية وبرلمانية، على أن تمثل فيها المخابرات العسكرية والمخابرات العامة.. دون ذلك لا تستقيم الأمور".

الرأي نفسه مال إليه الأستاذ "أمين هويدي" وزير الحربية ورئيس المخابرات العامة الراحل وقت أن تفجرت القضية للمرة الأولى.

وهذه آلية تلجأ إليها الدول الحديثة لاستجلاء الحقيقة من كل جوانبها.

استخدمتها إسرائيل إثر حرب (1973) فيما أسميت بـ"لجنة اجرانات"، التي انطوت نصوص تقريرها المنشور على إشارات لجاسوس أمد إسرائيل بمعلومات حساسة عن ساعة بدء العمليات العسكرية المصرية.

نفس الآلية استخدمتها مصر بعد هزيمتها في حرب (1967) للوقوف على أوجه الخلل الفادح، التي جعلتها ممكنة بهذا الحجم المروع، تمهيدا لإعادة بناء القوات المسلحة من تحت الصفر على أسس احترافية وحديثة، وقد ترأسها اللواء "حسن البدرى"، لكن لم يتسن لتقريره أن ينشر رغم مرور أكثر من نصف قرن.

هناك آلية أخرى لاستجلاء الحقيقة هي الوثائق، لكنها لا تصلح في حالة "مروان".

التوثيق مسألة مؤسسات والكلام المرسل عن أنه اخترق "الموساد" وضلله يفتقد إلى أي دليل على أنه كلف بالمهمة.

بحسب تأكيدات "هويدى" لم تكن لديه عندما كان رئيسا للمخابرات المصرية أي معلومات في هذا الشأن.

الإسرائيليون يستبعدون مطلقا ـ حسب كتاب "الملاك" ـ أن يكون قد كلف من "عبدالناصر" ولا يعقل أن يكلفه "السادات" بإفشاء توقيت بدء العمليات العسكرية ومصيره يتوقف على ما قد يجرى بعد ساعات على جبهات القتال.

كما لا يعقل الادعاء بأن مثل هذا الإفشاء من ضمن خطة الخداع الاستراتيجي، فقد أبلغ "مروان" الإسرائيليين أن الحرب سوف تبدأ في الساعة السادسة من مساء السادس من أكتوبر، بينما بدأت فعلا بالساعة الثانية والشمس في كبد السماء.

حسب رواية "هيكل" فقد كان ذلك هو الموعد المحدد فعلا لبدء الحرب، لكنه تقدم أربع ساعات للتوفيق بين القيادتين العسكريتين في مصر وسوريا.

هذه مسألة يمكن التأكد منها ببساطة من الأرشيف الرسمي، فإذا ما صحت فهو الخائن الأخطر في التاريخ المصري بلحظة تأهب لعبور الجسور ورد الهزيمة بواحد من أروع المشاهد التاريخية، التي جسدت روح القتال والتضحية.

لم تأخذ إسرائيل المعلومات الخطيرة التي وردت إليها من "مروان" بكامل الجدية، وكان الغرور بالغا و"التقصير" مريعا.

لا "الملاك الخائن" أنقذ إسرائيل من شجاعة المقاتلين ـ ولا هو يستحق إذا ثبتت التهمة بحقه ـ أن يطوى رفاته في التراب المصري.
0
التعليقات (0)