مقالات مختارة

انتصارات.. بلا منتصرين

مهند عبد الحميد
1300x600
1300x600
"القديم يحتضر، والجديد لا يولد"، قالها المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي في قراءته للأزمة العميقة التي عاشتها إيطاليا في ثلاثينيات القرن العشرين. 

عند القياس مع العالم العربي، فإن مقولة غرامشي تنطبق على الحالة العربية ما قبل الانتفاضات الشعبية السلمية التي اندلعت في العديد من الدول العربية، وكانت تنذر بانتقال عدواها لمعظم الشعوب العربية.

بعد الانتفاضات ومآلاتها وتداعياتها، يمكن القول إن النظام القديم تعاد له الحياة، وإن الجديد يجهض.

وفي هذه الأيام، يكثر الإعلان عن انتصارات في غياب الشعوب التي كانت تُمّني الذات بنصر يحقق لها شعاراتها البسيطة (خبز وحرية).

ينتصر الجيش العراقي ومليشيا الحشد الشعبي وأمريكا وحلفها غير المقدس في الموصل، لكن شعبها الذي دفع ثمن سيطرة داعش على مدينته ظل يعاني من الاستعباد والقهر، وهو يدفع الآن ثمن هزيمة داعش وإخراجها من مدينته بضحايا القصف التدميري وبالانتهاكات، وقد تعرّض العشرات من أبناء المدينة لتصفيات جسدية، ولأشكال من التعذيب، بحسب تقارير منظمات حقوقية، ويُتَهم المئات بل الآلاف من المواطنين، الذين خضعوا سابقا لسيطرة داعش، بشبهة الانخراط في التنظيم، أو بتقديم الدعم له، تحت طائلة العقاب الشديد خارج القانون وداخله. 

الشيء ذاته يتكرر في مدينة الرقة السورية وريف حمص وحلب ودمشق، حيث لا يحسب حساب لحياة وأمن المواطنين المغلوبين على أمرهم. 

وفي مدينة حلب جاء الانتصار على صورة تدمير شامل لجزء من المدينة وتشريد كل المواطنين منه، وهو ما حدث لعدة أحياء في مدينة حمص. 

لماذا تقتصر المعالجة على الحسم العسكري والأمني في سورية والعراق وليبيا، ويضرب بعرض الحائط معالجة الأسباب وبتصويب الاختلالات الاجتماعية التي أعادت تلك الشعوب إلى مراحل ما قبل تشكل الدولة.

يجوز الاعتقاد بمشروعية تطلع الشعوب إلى عقد اجتماعي جديد ينطلق من حقوق المواطنة دون تمييز، ويعيد تعريف الدولة بما هي دولة قانون تحمي الحقوق المدنية وتضمن التعايش بين مكوناتها الدينية والإثنية والقومية، وتحترم وتصون التعدد السياسي والثقافي والديني، وتضمن التبادل السلمي للسلطة في إطار الحريات العامة والديمقراطية. 

هذا المخرج المنطقي لا يقتصر على شعب من دون آخر، لكن هذا المنطلق غير مقبول بالمطلق من الأنظمة المستبدة التي تنصب نفسها عنوة وصيّة وممثلة للشعب، والتي ترى في كل مسعى لتغيير قواعد اللعبة مؤامرة خارجية تستهدف البلد برمته، وتعمل بكل طاقتها على قمع كل محاولة ومسعى، كان ديمقراطيا سلميا أو غير ديمقراطي. 

إن حل الأزمة مهما بلغت من استعصاء، لا يكون إلا من داخل البلد واستنادا لمصالح شعب البلد الذي من حقه تقرير مصيره بنفسه دون تدخل أو وصاية من أحد، وما عدا ذلك فكل حل سيندرج تحت بند تقاسم النفوذ والسيطرة الإقليمية والدولية على البلد وشعبه، وهو ما يحدث هذه الأيام.

من يراقب الخطاب السياسي والإعلامي سيجد حلفا موحدا ومتفقا على هزيمة داعش وشبيهاتها من المنظمات الأصولية الإرهابية، لكن كل طرف من أطرافه يسعى للحصول على حصة من البلدان المنكوبة بالاستبداد والإرهاب. 

ينطبق هذا على روسيا والولايات المتحدة وتركيا وإيران والسعودية وإسرائيل.

هؤلاء يقررون مصير سورية والعراق وليبيا ومصر ولبنان وفلسطين بالاستناد إلى المصالح المجتمعة ومصالح كل بلد على انفراد. 

كل هذه البلدان ضد التغيير الديمقراطي الحقيقي الذي ترنو له الشعوب، وكل قوى التدخل أجمعت على بقاء الأنظمة المستبدة وعلى دعمها عسكريا ولوجستيا وسياسيا. ولا يغير من هذا الموقف الحماسة لتغيير بعض الرموز المستهلكة "مبارك وبن علي والقذافي وصالح والأسد" تأييد خلع رموز لا يعني إسقاط النظام الذي يتربع فوقه الرمز ولا يعني المس بالطبقات الرأسمالية التي يعبّر عنها النظام. 

إن مواقف دول التدخل الدولي والإقليمي منسجمة ومحسوبة بدقة مع المصالح، مثلا الولايات المتحدة لا توجد لها مصالح كبيرة في سورية، إلا من زاوية اللعب بالورقة الكردية التي لها تأثير على العراق وتركيا، ومن زاوية الأمن الإسرائيلي، فقد اكتفت الولايات المتحدة بإزالة السلاح الكيماوي، ولم يضرها وقوع سورية في القبضة الروسية، ولا انتهاكات النظام بحق مواطنيه، ولا تغلغل إيران وحزب الله والمليشيات الشيعية طالما التزمت بقواعد الأمن الإسرائيلي.

مقابل تدخل الولايات المتحدة بمستوى أعلى في العراق دفاعا عن النفط وما يهم إسرائيل هو تقديم الحرب على الإرهاب على ما عداها، والتطبيع مع الدول العربية من موقع "العداء المشترك" - والأدق التنافس المشترك - لإيران، ويهم إسرائيل تعايش دول المنطقة مع احتلال دائم للأراضي الفلسطينية، وإذابة مكونات الشعب الفلسطيني في الجوار العربي. 

أما المصلحة الإيرانية فتكمن في تعزيز نفوذها في المنطقة كلاعب إقليمي له مصالح غير قابلة للشطب، بالاستناد لمليشيات طائفية كالحشد الشعبي، وكتائب الحق، وحزب الله، والحوثيين والنظام الأسدي ومليشياته وأجهزته. 

وإذا كانت تركيا العضو في الناتو غنية عن التعريف بمصالحها، فإن التعريف لا بد وأن يشمل المملكة السعودية التي انتقلت إلى البحث عن موطئ قدم ودور إقليمي عبر قوتها العسكرية الناشئة ومن خلال وكلاء من "فصائل إسلامية مسلحة" وقوى سياسية، وعبر الأموال التي تغدق على الولايات المتحدة دون حساب.

الحسابات الخاصة الأنانية الضيقة لدول التدخل والحرب على الإرهاب لا يهمها وجود أنظمة حكم مستبدة وفاسدة وقامعة إلى ما لا نهاية. 

بالعكس كان انحيازها حاسما لبقاء تلك الأنظمة التي تشكل ضمانة لبقاء مصالحها. لا يهمها ارتكاب مجازر وجرائم حرب بحق الأبرياء، لا يهمها شطب القانون، ولا يهمها انتهاك الحقوق والحريات، ولا يهمها تشريد الملايين ولا عودتهم، ولا يهمها حرمان آلاف التلاميذ من المدارس، ولا يهمها الخنق الاقتصادي الذي دفع بالسواد الأعظم من تلك الشعوب تحت خط الفقر، ولا يهمها إلا تحقيق مصالحها الضيقة حتى لوكان بثمن إرسال الشعوب التي تطالب بالتغيير إلى الجحيم. 

انتصارات في العراق وانتصارات في سورية ولبنان وليبيا وسيناء واليمن وانتصارات في أفغانستان. 

انتصارات قبرت المؤامرة، وانتصارات لأجل الانتصار الأكبر على إسرائيل، وكل موقف أو تساؤل حول الأسباب والنتائج يعدّ تشكيكا بالانتصارات، وجزءا من المؤامرة والمتآمرين.

الأيام الفلسطينية
0
التعليقات (0)