كتاب عربي 21

المسألة الاقتصادية وعلاقتها بحقوق الإنسان

شهيد بولسين
1300x600
1300x600
تخيل معي هذا السيناريو: أنت تسير في الشارع وهناك على مقربة منك رجل يقف ومعه زوجته وطفلهما الصغير، ثم يأتي رجل عدواني ويبدأ في التهجم عليهم لفظيا، وأنت تقف هناك ولا تفعل أي شيء. وفجأة يصرع هذا الرجل الزوج ويلكمه حتى يقع على الأرض، وأنت تقف هناك وتراقب ما يحدث ولا تفعل أي شيء، ثم يُخرِج الرجل سكينا من جيبه، وأنت تقف هناك ولا تفعل شيئا، ثم يقوم بذبح الزوج وجز رقبته، وأنت تقف ولا تفعل شيئا، ثم يذهب بالسكين للطفل ويقتله، وأنت لا تفعل شيئا، ثم يغتصب المرأة وأنت تقف هناك وتراقبه ولا تفعل شيئا. طبعا هذا المستوى من التبلد في المشاعر وعدم الاكتراث بما يحدث من السوء بمكان، ولكننا قد نتفهم موقفك إن كان سببه الخوف الشديد أو الارتباك، رغم أن هذا أيضا يستحق التوبيخ. ولكن دعونا نتصور أنك لم تكن خائفا!! بل في الواقع، دعونا نتصور أنك شخص قوي ومدرب تدريبا جيدا، ومن أصحاب الخبرات القتالية والمهارات المتفردة، وأنه كان يمكنك بسهولة أن تهزم المهاجم، ولكنك اخترت بوعي ألا تقوم بذلك.

دعونا نتصور أنك لم تتحرك أو تتفاعل لأنك أردت أن تبيع شيئا لهذا الشخص العدواني الذي هاجم هذه الأسرة، وأنك تصورت أن تدخلك بأي شكل سيجعلك تخسر هذه الصفقة معه!!! فقط تأمل وتفكر في هذا الموقف لبضع دقائق.. لقد اتخذت قرارا متعمدا بعدم التدخل والسماح لهذه الجريمة المروعة أن تحدث، وكان بإمكانك أن تمنعها، ولكنك فضلت القيام بصفقة تجارية مع المهاجم. في مثل السيناريو، أعتقد أننا يمكن أن نتفق جميعا على أنه سيتم تشخيص حالتك على أنك شخص مضطرب ومعاد للمجتمع بشكل متطرف.

حسنا، هذا السيناريو هو باختصار ما يحدث اليوم من قبل سلطة الشركات في الدول التي تنتشر فيها انتهاكات حقوق الإنسان. فالكيانات القوية جدا تقف بلا أي تدخل، ولا تقول شيئا، ولا تفعل شيئا، بل تدعي أنها لا تتحمل أي مسؤولية فيما يحدث، في حين أن الفظائع ترتكب أمام أعينها؛ كل ذلك لأنها لا تريد أن تؤثر على أرباحها الحالية أو المحتملة. فبشكل أو بآخر، هم يسمحون لهذه الفظائع أن تستمر، لا لشيء إلا لأنها قد تخلق فرصا لهم.

أي نقاش حول حقوق الإنسان هو بالضرورة نقاش حول توزيع السلطة واستخدامها، وهذا الأمر بديهي. والدفاع عن حقوق الإنسان يعني تقنين استخدام السلطة، مما سيعني المطالبة بتوزيع هذه السلطة؛ أو على الأقل المطالبة بمساءلة السلطة؛ لضمان أن الشعوب ستكون آمنة من القمع والاضطهاد.

نحن نعيش في عصر تتركز فيه القوة القصوى في أيدي عدد قليل جدا من الناس، فهي تتركز في أيدي أشخاص لا يتم انتخابهم للسلطة، ولا يمكن التصويت لإخراجهم من السلطة، فهي تتركز في أيدي من يعيشون خارج أروقة المساءلة الديمقراطية، وتتركز في أيدي من يكرسون أنفسهم حصريا (وقانونيا) لاستخدام قوتهم لخدمة مصالحهم الخاصة.

وفي ظل هذا التركيز العالي للسلطة الخاصة غير الخاضعة للمساءلة، كيف تتصرف الحملات التي تنادي بحقوق الإنسان؟ يبدو واضحا بما فيه الكفاية أن الأسلوب التقليدي المتمثل في مجرد الضغط على الحكومات أو المؤسسات، مثل الأمم المتحدة، قد عفا عليه الزمن. فقد ظهر في الأفق نوع من أنواع إعادة تشكيل النموذج الإمبراطوري القديم، مع حكومات تتألف من طبقة إدارية تخضع لقوة الشركات. وهذا لا يعني أن الحكومات غير ذات صلة؛ فهي أبعد ما تكون عن هذا. فهي تلعب دورا حاسما في توطيد سلطة الشركات وإثرائها. وإذا تفحصت قائمة الشركات الكبرى على قائمة فورتشن 500 (Fortune 500)، ستجد عددا قليلا جدا منهم نجح بدون المساندة والدعم الحكومي الضخم. لذا فالحكومات مهمة، ولكن وظيفتها الأساسية هي أنها أداة خاضعة للسلطة الخاصة.

يمكننا أن نضغط على الحكومات، ولكننا لن نتمكن أبدا من الوصول إلى مستوى التأثير على السياسات كما تمارسه الشركات متعددة الجنسيات.. وهذه هي الحقيقة المجردة! فالحكومة إلى حد كبير غير قادرة في هذه المرحلة على تحدي الضغوط الاقتصادية للشركات، ويمكنكم النظر إلى نموذج اليونان.. بل يمكنكم في الواقع النظر إلى أي انقلاب عسكري حدث في الخمسين أو الستين سنة الماضية، في أي مكان في العالم، وسنرى أنه قد نُفِذَ تحت رعاية الأعمال التجارية الكبرى، ولمصالحها. وللنظر إلى مصر، على سبيل المثال: كانت الإطاحة بمحمد مرسي انقلابا نيوليبراليا، تلاه استسلام سريع ومتطرف لمطالب صندوق النقد الدولي، ضد رغبات الشعب، وضد مصالحهم الأهم.

لقد حاربت الحركة المناهضة للعولمة في التسعينيات وأوائل القرن الحادي والعشرين؛ تأثير الشركات على الحكومة، فقد أرادت العمل خارج السياسة. ولكن هذه الحركة فشلت، وكان لا بد أن تفشل، لأنه هدف غير واقعي. الشركات متعددة الجنسيات لا تختفي، وقوتها ليست على وشك الزوال، وعلينا أن نكون عمليين في هذا الشأن. فقد حدث بالفعل نقل للسلطة، وليس من الممكن هكذا ببساطة أن نعكس ذلك؛ على الأقل ليس بعد. ما علينا فعله هو أن نحتوي الواقع المتمثل في مجموعة جديدة من ديناميات القوة في العالم اليوم.

ويبدو لي أن السبيل الوحيد للمضي قدما هو التصدي لقوة الشركات بأنفسنا مباشرة. فعلينا أن نرفع الحجاب عن حقيقة الشركات، ليكن واضحا للجميع أن الشركات كيانات سياسية، وأن هذا هو أساس التعامل معها. ونحن لسنا مضطرين إلى إلغاء نفوذ الشركات (فهذا شيء لن نستطيعه على أي حال) ويجب علينا، باختصار، أن نحول نفوذ الشركات إلى المسار الديمقراطي. وهذه ستكون الطريقة الوحيدة، الآن وفي المستقبل، التي يمكن أن تعيننا على تحسين وضع حقوق الإنسان بنجاح؛ بل هي الطريقة الوحيدة التي يمكننا بها أن نعيد تأسيس أي مظهر من مظاهر الديمقراطية.

كيف إذا نحقق هذا؟ كيف يمكننا فرض المساءلة على الشركات؟ كيف يمكننا أن نضغط عليهم وإقناعهم باستخدام نفوذهم الهائل هذا من أجل المصلحة العليا للمجتمع ليكونون مكرسين قانونا وحصريا لمصالح أخرى غير مصالح مساهميهم؟ قد تبدو لكم كمعضلة مستعصية.. ولكنها ليست كذلك.. على الإطلاق.

عندما ندرك أن الشركات ليست إلا كيانات سياسية، سنبدأ بعدها في إدراك من هم أصحاب المصلحة الحقيقيون: وهم عمال هذه الشركات، وعملاؤها، وكل المتأثرين بها أو من يساهمون بأي شكل من الأشكال، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، في أرباحها.. فكل هؤلاء ليسوا إلا اللاعبين السياسيين الفعليين. وهذا تماما مثل الناخبين، ومثل الأحزاب السياسية، ومثل لجان العمل السياسي.. إلخ. ونحن جميعا أعضاء في الدوائر  فبدلا من الانتماء للحزب، نحن نقدم ولاءنا للعلامة التجارية. وبدلا من الشارات السياسية، نرتدي شعاراتهم على ملابسنا، وبدلا من المساهمة في الحملات الانتخابية، نساهم بشراء منتجاتهم بصفتنا مستهلكين لها. كل ما نفعله، وكل ما ينفقون هم مليارات الدولارات من الدعاية والتسويق لجعلنا نفعله، يساهم في تمكين الشركات لمتابعة جداول أعمالها السياسية. لذلك فلدينا الحق في أن نتوقع انعكاس مصالحنا على كيفية استخدام الشركات لسلطاتها. استهلاكنا، وولاؤنا للعلامات التجارية، وعملنا.. كل هذه الأشياء ينبغي أن تكسب لنا الحق في التمثيل عندما تسعى هذه الشركات إلى تنفيذ أجندات سياسية، وينبغي أن يكون لنا رأي فيم تفعله هذه الشركات بالسلطة المطلقة التي نمنحها لهم.
التعليقات (0)