قضايا وآراء

الاصطفاف الحقيقي في زمن بناء المواطنة

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600
 لعل السؤال الذي يمكن طرحه في كلّ أزمة من الأزمات التي تمر بها تونس منذ انتخابات 2014 هو السؤال التالي: هل كان السماح بوجود "الأحزاب الدستورية" المنبثقة عن التجمع المنحلّ-فضلا عن التسامح "المشبوه" مع محددات إقصائها عن المجلس التأسيسي-، "ضرورة" منطقية" وحتمية سياسية وتاريخية أم إنه كان مجرّد "إمكان" قامت العديد من الأطراف"التقدمية"-ومعها حركة النهضة- بـ"تسويقه" باعتباره "ضرورة"سياسية وأخلاقية –وذلك بقيادة محمد نجيب الشابي الذي كان نموذجا"مثاليا" للتحوّل الجذري من وضعية "النضال" المحكوم بسقف "القانونية" زمن المخلوع، إلى وضعية "البديل الوظيفي" لورثته تمهيدا لشراكة استراتيجية معهم لحكم البلاد ضمن شروط "التبعية" ذاتها لمركز السلطة في الغرب؟

لا يمكن أن ننفي أنّ وجود الأحزاب التجمعية -وقاطرتها الأساسية نداء تونس- كان جزءا من الحراك المجتمعي ومن الاختلالات العميقة واستراتيجيات إعادة التوازن التي عرفتها تونس بعد الثورة. ولكنّ نداء تونس -رغم انتمائه للمنطق الداخلي للثورة بما هو جملة من الممكنات التي لا حتمية فيها- لم يكن يتحرك ضمن الأفق الثوري ولم يكن بالتالي جزءا من الحل بقدر ما كان جزءا من "المشكلة" التي أنتجتها "العائلة الديموقراطية" المستفيدة من بقاء التجمع باعتباره "حاضنة" كبرى للرساميل المادية و العلائقية واللوجستية اللازمة للالتفاف على أي إرادة شعبية حقيقية قد تدفع بالإسلاميين إلى مركز السلطة.

لقد بقي التجمّع في نسخه "الثورية" التي أعقبت 14 جانفي (كانون الثاني/ يناير)، لأنّ منطق الثورة المضادة -أو لنقل منطق الدولة العميقة ونواتها الصلبة جهويا وماليا وأمنيا- يتطلّب تكوين "جبهة حداثية"، جبهة لا يكون المحدد فيها هو "الوطنية" والموقف النقدي الجذري للمنظومة الدستورية-التجمعية، بل يكون المحدد هو "الأرضية الأيديولوجية" المشتركة التي تتخفى وراءها جملة من المصالح الجهوية والفئوية المحتاجة إلى الدفاع عن ذاتها ضد أي مشروع مواطني قد يهددها تهديدا جديا.

 لم يكن استمرار التجمع في النشاط عبر نداء تونس خاصةً ليحصل لولا تلاقي المصالح الموضوعية للكثير من الأحزاب والتنظيمات مع مصالح "راعيها" السابق -التجمع - ،بل الأسبق- الحزب الدستوري.

ومحصول هذا القول أنّ الاصطفاف الحقيقي في زمن "الفوضى" المفتوحة على كلّ الاحتمالات كان واقعيا هو الاصطفاف التالي: نجد من جهة أولى كل "الوطنيين" الراغبين في إنجاح التجربة الديمقراطية، غير المتخوّفين من نتائجها (و هم الإسلاميون و بعض الأحزاب العلمانية الوطنية) ، ونجد من جهة ثانية، كل الأحزاب الكرتونية و التنظيمات "المؤدلجة" بنخبها "الانقلابية  المنظّرة "للثورة" على الإرادة الشعبية في صورة فشل تحالفاتها ومناوراتها في فرض "وصايتها" على الإرادة الشعبية، بل تدليسها .

ولم يكن أي اصطفاف "وهمي" آخر (مثل ثنائية تقدمي/رجعي) يعكس في بنيته العميقة إلا رغبة لاواعية في ممارسة الإقصاء والوصاية، كما لم يكن يعبّر إلا عن استراتيجيات "مقاومة" خفيّة مازالت تبديها بنية القمع والدكتاتورية، لكن عن طريق "وكلاء" كان أغلبهم قبل 14 جانفي شريكا في موائد السلطة الموضوعة علنا أو سرّا، أو عن طريق حلفاء كانوا يعادون النظام السابق لكنّ عداوتهم للإسلاميين كانت ومازلت أعظم من عداوتهم لأي نظام استبدادي مهما كانت طبيعة شرعيته مادام معاديا للإسلام السياسي الإخواني أساسا.

لذلك وجدت تونس نفسها أمام "احتمالين تاريخيين لا ثالث لهما: الاحتمال الأوّل -وهو مرتبط بمبدأ الواقع وتناقضاته- هو أن تكون هذه المرحلة "الانتقالية" هي "برزخ" بين عالمين ستستعيد النواة الصلبة للنظام القديم في نهايته سلطتها لكن بصورة مخاتلة ، أي بإدخال بعض التعديلات "الصورية" على تنظيماته وتحالفاته وأنساقه الحجاجية وقاعدته الاجتماعية والجهوية.

وهو ما يعني النجاح التام للثورة المضادة باعتبارها استراتيجيات فعّالة في إدارة الأزمة التي مسّت"الرموز العليا" للنظام، دون أن تقدر على تغيير بنيته أو منطقه أو رهاناته الحقيقية. أمّا الاحتمال الثاني-وهو مرتبط بمبدأ الرغبة أساسا-، فهو أن تكون المرحلة الانتقالية، انتقالا فعليا بين عالمين وزمنين، أي انتقالا من الدكتاتورية والمواطنة "المشروطة" أو ما دون المواطنة، إلى الديمقراطية الاجتماعية و"الامتلاء "الواقعي للمفاهيم التي بقيت في أغلبها "صورية" منذ بناء الدولة الوطنية.

ولكنّ هذا الاحتمال الثاني، لم يكن قويا بما فيه الكفاية وذلك لأنه لم توجد الأطراف القادرة على إنفاذه وفرضه على "القوى اللاوظيفية" المسيطرة على المجال العام بأوجه نشاطه السياسية والمدنية والإعلامية والأمنية وغيرها.

فالإسلاميون الذين قبلوا العمل الديمقراطي وغادروا منطق الفرقة الناجية والتكفير، والعلمانيون الذين قبلوا بتعددية قيمية ومرجعية لا تكون في موضع العداء المطلق مع الإرادة الشعبية أو مع الهوية الجمعية، كانوا يعانون جميعا –مقارنة بقوى الارتداد النسقي إلى ما قبل الثورة- من هشاشة كبرى تبين عن قوة المكبوت السلطوي الدكتاتوري في شكله الأصفى،أي تبين عن عجز جوهري عن التصدي لعودة الثالوث المؤسّس لكل دكتاتورياتنا "الحديثة": الوطن- الحزب الزعيم -سواء أكان هذا الثالوث ذا مرجعية دينية، أو كان معلمنا-.

ليست ثنائية مسلم/كافر في السياق التونسي إلاّ مجرّد إسقاط "مخيالي"-عند السلفية والتحرير- أو "سياسوي" -عند القوى العلمانية-، على سياق سوسيو-ثقافي قد تجاوز واقعيا وضعية"الجماعة الإيمانية"  في المجتمعات التقليدية نحو تنظيم"مدني" لا يكون المحدّد الديني فيه هو أساس المواطنة أومبدؤها -وإن لم يكن بالضرورة غريبا عن فلسفتها التشريعية أو القيمية القابلة للتفاوض الاجتماعي-، كما أنّ الانقسام الكلاسيكي في الأدبيات "السلفية" الماركسية بين التقدمي/الرجعي ، سيكون مبدأ تفسيريا محدودا ومخادعا لأن التقدمية والرجعية-في الصيرورة المواطنية- هما مفهومان يحتاجان إلى مضامين جديدة قد تخالف المضامين "الصحيحة" المعتمدة في سياقات الاستبداد وهوامشه المدجّنة ، بل قد تخالف حتى الجملة السياسية عند معارضته "الراديكالية" وغير القانونية.

 فكيف يمكن أن يكون "تقدميا" من "يقطع الطريق" لفائدة الواجهة السياسية لنظام رجعي برجوازي قامت عليه ثورة كاملة؟ وهل يمكن أن يكون تقدميا من يجد سقف عقله السياسي في البورقيبية  حتى في أكثر لحظاتها انحرافا عن العقل السياسي الحديث؟

وهل يمكن أن يكون تقدميا من مازال سجين شبكات تفسير استشراقية لا مكان فيها لآخر مكتشفات العقل الانساني ومدارسه التحررية، بل لا مكان فيها لأي اختلاف جذري مع باقي الفاعلين الجماعيين؟ وإلى أي حد يمكن أن يكون رجعيا  ذلك الذي يقبل بالديمقراطية وبالاحتكام إلى الإرادة الشعبية -وإن على وجل وبتخوّف كبير من معارضيه المحكومين برهاب الإسلام السياسي أكثر منه بتفهّم حقيقي لطبيعة "الإحراجات" التي لا يمكن للعقل الديني الهروب منها إلا بالتراكم و"الرضّات" الوجودية والمرجعية-؟

وهل يمكن أن يكون رجعيا من يقبل بألا يكون الإسلام هو الخطاب الكبير الذي تستمد سائر الخطابات السياسية شرعيتها منه؟ وهل يمكن أن يكون رجعيا من خرج من منطق البديل إلى منطق الشريك ؟ بل كيف يمكن أن نتحدث عن تقدميين ورجعيين في أحزاب لا وظيفة لها إلا إدارة التخلف وتسويقه باعتباره حتمية تاريخية لا مخرج منها إلا بمزيد الارتهان للخارج –وإن اختلف هذا الخارج بين طرف وآخر-؟

إنها أسئلة حارقة تجعل من الضروري مراجعة نظام التسمية المترسب من زمن المخلوع والمعتمد عند أغلب "الخبراء" والإعلاميين والسياسيين والنقابيين. فنظام التسمية ذلك قد حينته الكثير من القوى "التقدمية" فارتدت إلى منطق التناقض الثانوي والتناقض الرئيس وإلى تضخيم الإشكالات الهووية وتهميش القضايا الاجتماعية والاقتصادية، كما سايرته حركة النهضة فاستنفدت مظلوميتها ومشروعيتها النضالية وجزءا كبيرا من تمثيليتها في منطق التوافق، ذلك التوافق الذي أصبح واقعيا جزءا من مشروع النواة الصلبة للمنظومة القديمة لإعادة الهيمنة على المجال العام ، وهو ما جعله في تعارض شبه تام بما مع المصالح المادية والرمزية للفئات والجهات المحرومة الراغبة في الخروج من هيمنة المركب المالي-الجهوي-الأمني الحاكم منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا.

ختاما، علينا أن نتذكر دائما أنّ "التطرّف" أو الغلوّ"الدوغمائيين" هما ظاهرة "نظامية" Systematique لا يخلو  منها أي نسق فكري أو تنظيم اجتماعي، وهو ما يعني ضرورة أن يعمل الإسلاميون والعلمانيون معا من أجل أن يبقى "مركز المجال العام" خارج مدارات التخوم وسلطتها/فتنتها التفتيتية.

كما ينبغي على الفاعلين الجماعيين الذين يحاولون مأسسة الثورة وإبعادها عن الاستراتيجيات الارتكاسية اختيار "المواطنة" مفهوما يحيط بما دونه من أنساق دينية وعلمانية، مفهوما لا يُبنى إلاّ عبر "العقل التواصلي" القابل للاستئناف والتفاوض الجماعي بعيدا عن العنف المادي أو الرمزي، وفي إطار "معرفة حوارية" تنتج عن"اتفاق" مجموع المتدخّلين في النقاش العام ولا تتقدّم عليه بأي حجّة شرعية أو عقليّة. فالمواطنة "عقل" و"حرّية اختيار" قبل أن تكون انتماء أو إيمانا بأنساق "مغلقة" لا يُقدّسها إلا أصحابها مهما كانت درجة "البداهة" الإيمانية أو العقلية التي يُسندونها إليها
0
التعليقات (0)