مقالات مختارة

قطر ما بعد 2017

محمد قيراط
1300x600
1300x600
"إن قطر بالنسبة لنا وللجميع في شهر حزيران/يونيو 2017 تختلف عن قطر في السابق، فلنا تاريخ نفخر ونعتز به. ولكن ما حدث في شهر يونيو 2017 قوّانا ودفعنا لا لمزيد من العمل لصالح هذا الوطن". هذا ما صرح به صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل الثاني أمير قطر المفدى. هذا التصريح ينم عن إرادة دولة وشعب قررا مواجهة التحديات والعمل أكثر وأكثر من أجل الرقي والتميز، بعيدا عن الحصارات والمؤامرات التي تنتهجها الدول المارقة إزاء الجيران والدول. فما حدث في شهر حزيران/يونيو، أعطى عزيمة وقوة أكثر لدولة قطر وحفزها على المزيد من العمل والمثابرة والاجتهاد؛ بهدف التميز والرقي والازدهار. استخلصت دولة قطر درس الاعتماد على النفس فيما يتعلق بمختلف مجالات الأمن كالاقتصاد والغذاء والدواء. المحن والأزمات والحروب تقوي الشعوب والدول والأمم، وتجعلها تستدرك مواطن الضعف والخلل والتعرف على حقيقة الأصدقاء والعداء. ما تعلمته قطر من الحصار هو الاستثمار في ثقافة وروح العمل الإيجابية والتكاتف والدافعية في العطاء والإنجاز وروح المسؤولية، والتفاني في خدمة الوطن والدفاع عنه. فالأزمة كشفت عن ولاء الشعب القطري والمقيمين على أرض قطر لأميرهم وبلدهم وإصرارهم على مواصلة العمل بروح الفريق؛ من أجل التنمية المستدامة والرقي والازدهار.

الأزمات والمحن تكشف قوة الدول وقدرتها على مواجهة التحديات والتمسك بالقيم والمبادئ والسيادة والكرامة والعزة.. قطر الدولة الصغيرة مساحة والدولة الكبيرة في الدبلوماسية والعلاقات الدولية، كشفت للعالم بأسره مدى ثباتها ونضجها في التعامل مع حصار شرس ظالم قائم على مبررات واهية، وعلى غطرسة دول أخطأت كثيرا في حساباتها وظنت أنها تستطيع شراء ما تريد بالمال. دروس كثيرة جدا تعلمتها دولة قطر من الحصار الظالم في عز الشهر الفضيل، وأول هذه الدروس الاعتماد على النفس في كل شيء خاصة في المجال الغذائي؛ فبعد الإعلان عن الحصار وإغلاق المنافذ الجوية والبرية والبحرية، فكرت دولة قطر مباشرة في الاستثمار الزراعي في مختلف مجالاته لتوفير احتياجات الدولة في المجال الغذائي، سواء ما تعلق بالحليب والألبان ومشتقاتها، أم الخضروات والفواكه والدواجن واللحوم وغيرها. العبرة الثانية التي استفادت منها قطر انطلاقا من مبدأ رب ضارة نافعة، هي أن في مجال السياسة لا يوجد صديق بل توجد مصالح؛ فقد تبين بكل وضوح أن الجيران لهم أطماع ولهم نوايا للهيمنة والسيطرة وبسط النفوذ، وكأن قطر قطعة من هذه الدولة أو تلك. وهذا ما يتنافى جملة وتفصيلا مع ميثاق مجلس التعاون الخليجي. قطر ما بعد حزيران/يونيو 2017 أصبحت تعي تماما أن مجلس التعاون الخليجي ما هو إلا وعاء سياسي فاض، يفتقد للعمل الإقليمي المشترك وللمؤسسة السياسية الإقليمية، التي تستطيع ضبط الأحوال وإدارتها في إطار الاحترام وتحقيق المصالح المشتركة؛ فالحصار التي تعرضت له قطر ظلما وبهتانا كأنه لم يكن، وإلى حد الساعة لم يتحرك هذا الكيان في أي اتجاه ولم يحرك أمينه العام أي ساكن، وكأن مجلس التعاون الخليجي لا يهمه الموضوع لا من قريب ولا من بعيد. هذا يعني أن المنظمة الخليجية لا تختلف كثيرا عن جامعة الدول العربية في فشلها الذريع في العمل المشترك. هذه الكيانات مع الأسف الشديد تكون دائما موطنا لدولة أو دولتين للسيطرة والهيمنة على اللجان؛ لتحقيق مصالح ضيقة جدا لا تحقق حتى مصالحها في بعض الأحيان، فمجلس التعاون الخليجي فشل فشلا ذريعا في توحيد العملة الخليجية على سبيل المثال وليس الحصر.

فإذا رجعنا إلى التاريخ نلاحظ أن اليابان بعد قنبلة هيروشيما وناجازاكي وآثار الحرب العالمية الثانية عادت بقوة إلى الساحة الدولية، وتعلمت دروسا كثيرة وأصبحت قوة عظمى يحسب لها ألف حساب. ألمانيا التي جزأها الحلفاء وجردوها من جيشها وقوتها عادت بقوة بعد الحرب العالمية الثانية، وفرضت نفسها كأقوى دولة أوروبية، واستطاعت أن تسترجع ألمانيا الاشتراكية وتوحد الألمانيتين وأكدت للعالم بأسرة أن ألمانيا لا تجزأ. هكذا تفرض الدول نفسها وتبرهن للعالم أن السيادة والوحدة والمبادئ لا تلغى بالقرارات والحروب والأزمات والحصارات والمضايقات. قطر ما بعد 2017 برهنت للعالم أنها تحترم القوانين الدولية وتحترم إتيكيت الجوار، وتحترم المبادئ والقيم التي تقوم عليها المنظمات الدولية. تحدت قطر الحصار وأفشلت مخططا كان يستهدف القضاء على سيادتها وكرامتها، وبرهنت للعالم أن دول الحصار فشلت أمام العالم في تقديم الحجج والأدلة الدامغة لتبرير حصارها الظالم. فالمطالب التي تقدمت بها والتهم التي وجهتها ضد قطر كانت مجرد افتراءات خالية من أي سند قانوني أو شرعي وبذلك خرجت قطر فائزة، غانمة حيث نالت احترام الجميع واستطاعت أن تكشف نوايا أولئك الذين يدعون حسن الجوار والصداقة والعمل الخليجي المشترك.

قطر ما بعد 2017 تكون الدولة التي فرضت وتفرض نفسها على الخريطة الدولية من خلال دبلوماسيتها الرشيدة، التي تقوم على احترام ميثاق منظمة الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية والقيم الإنسانية بصفة عامة. ستكون قوية بفضل رؤيتها الاستراتيجية واقتصادها القوي، واعتمادها على نفسها في الأمن الغذائي والاقتصادي. الفائدة الكبرى من الحصار تتمثل في كسب قطر رهان احترام المنظومة الدولية. فالقوى الفاعلة في النظام الدولي أدركت أن دول الحصار انكشف أمرها وتجلت نواياها وظنت أنها تستطيع أن تضلل العالم وتفرض أجندتها، من خلال إرضاء بعض الانتهازيين من قادة وصناع القرار في الغرب، لكن النتيجة لم تتأخر وتضاربت تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع وزير خارجيته ووزير الدفاع الأمريكي. قطر 2017 من خلال دروس الحصار ستنوع تحالفاتها الاقتصادية والسياسية والتجارية مع دول خارج مجلس التعاون الخليجي، دول تجمعها بقطر مبادئ وقيم بعيدا عن الغطرسة والتضليل واختراق وكالات الأنباء والمواقع الإلكترونية.

الشرق القطرية
0
التعليقات (0)