قضايا وآراء

الجيوش العربية وتبييض الجرائم

غازي دحمان
1300x600
1300x600
يرتبط اسم الجيوش العربية في الوقت الراهن بعالم الجريمة، حيث لا توجد مأساة أو كارثة إلا وللجيوش العربية نصيب كبير فيها، وهو ما يدفع للتساؤل عن سر هذا الارتباط  وأسبابه، وما إذا كانت العلة في مؤسسات الجيوش أو في مشغليها من الأنطمة الديكتاتورية.

في مصر وسوريا والعراق والجزائر وليبيا، وربما في بلاد عربية أخرى، ترتكب الجيوش جرائم بحق المجتمعات، أو أجزاء منها، دون أن يرف لها رمش، وتتحوّل إلى اداة قاتلة في يد طغمة او جماعة بانحياز واضح ومفضوح، في ابتعاد صريح عن الدور المفروض للجيش بوصفه حاميا للامة وأبنائها من الاعتداء الخارجي، وبوصفه طرفا غير مسيس على الصعيد الداخلي، ويقف على مسافة واحدة من القوى السياسية، بحيث يكون أقرب للشعب من أي طرف في الدولة.

غير أن الجيوش العربية، منذ تأسيس الدولة ما بعد الاستقلال عن المستعمر الخارجي، كانت على الدوام تمارس أدوارا مشكوكا بنزاهتها وحياديتها لصالح السلطات المركزية في مواجهة المجتمعات ونخبها، إذ طالما كانت الأساس في الصراعات السياسية والسيطرة على السلطة والتحكم بمفاصلها، كما أنها اندمجت بنظم الحكم وشكّلت الأساس لها، وطالما كانت أداة بيد قوى حزبية، وغالبا ما كانت تخضع لأجهزة المخابرات التي تحدّد وضع تشكيلاتها والأشخاص الذين يصلون إلى مراتب عليا، وأولئك الذين يتولون المناصب الحساسة بحسب درجة ولائهم، وتحوّلت الجيوش إلى مراكز فساد كبرى تتقاسم الموارد الضخمة التي تخصصها ميزانيات الدول العربية لنفقات الدفاع. 

لم يعرف عن الجيوش العربية في تاريحها الحديث تحقيق إنجازات مهمة في الميدان العسكري، وتجربة الجيشين السوري والمصري كافية لقراءة ومعرفة حقيقة غالبية الجيوش العربية، وفي آخر الحروب مع إسرائيل" تشرين الأول/ أكتوبر 1973"، وصلت الفرق الإسرائيلية إلى الحدود الإدارية لعواصم البلدين دمشق والقاهرة، ولم يوقفها عن متابعة مسيرها لداخل العواصم سوى قرار وتقدير أمريكي بأن حصول ذلك سيخل بالتوازن الدولي، وربما نتيجة تقدير أمريكي بأن تلك المساحة الشاسعة التي ستقتطعها إسرائيل، قد تكون سببا لاستنزافها على المدى الطويل.

لكن هذه الجيوش كانت تبدي شراسة رهيبة تجاه الأطراف الأضعف منها في محيطها، التي كانت في الغالب إما شعوبا عربية أو أبناء البلدان، إذ كلنا يذكر كيف تنمّر جيش حافظ الأسد على المخيمات الفلسطينية في لبنان ونكّل بأهلها حصارا وتجزيرا، وهو ما حدا ببعض النابهين إلى إخراج شعار" أسد في لبنان وأرنب في الجولان"، لوصف المهانة والإذلال التي كان يلاقيها جيش الأسد على يد الإسرائيلي الذي أسقط في مواجهة على أرض لبنان، لم تدم سوى ساعات معدودة، أكثر من مئة طائرة ودمّر لواء كاملا من المدرعات.

وعلى مدار السنوات التالية لحرب تشرين الأول/ أكتوبر،استنقعت الجيوش العربية في بؤر الفساد والترزق، وصار الجيش مجرد مكنة، الهدف منها تدجين الأجيال العربية الطالعة على الخضوع للحاكم، وتحوّل كبار ضباطه إلى رجال أعمال وأعمدة لاقتصاد فاسد، وظهرت في هذه المرحلة ظاهرة الواجهات حيث يتم وضع أشخاص في الواجهة ويتم تلميع أسمائهم عبر الإعلان، دون أن يكون لهم تاريخ اقتصادي معلوم، ولم يكن هؤلاء سوى مدراء اسميين لضباط الجيش والمخابرات الذين باتت لهم حصص معلومة من سرقة مخصصات طعام الجنود ولباسهم، وأموال مشاريع البنى التحتية ورشاوى صفقات الأسلحة وغيرها، ولتظهر بعد ذلك ظاهرة أبناء الضباط العصاميين الذين أصبحوا يمتلكون الشركات والوكالات والمعارض، ويبلطجون في الحقل الاقتصادي دون رادع ولا رقيب، واستولوا على مكاتب السياحة والأراضي المسجلة باسم الدولة واحتكروا المشاريع العمرانية ورخص الاستيراد والتصدير، وكل ذلك بعلم السلطات السياسية وتسهيلاتها بهدف إغراق الجيش في الفساد وسهولة التحكم به.
وبالفعل، لم تتأخر الاستفادة من الاستثمار في إفساد الجيش، وعندما وقعت الثورات العربية اعتبر قادة الجيوش أنها موجهة ضدهم، فهم اللبنة الأساسية في بنية الفساد التي تطالب الثورات بإزالتها، لذا كانت معنية بالقضاء على الثورات بل والتنكيل بالمجتمعات إلى أبعد الحدود، وإذا كان الجيش المصري قد ظهر في البداية على أنه طرف محايد، فذلك كان نتيجة حسابات دقيقة لدى قادته بأن الأمور ستؤول لهم دون الحاجة إلى الصدام الفج والمباشر، وربما لحسابات أخرى تتعلق بسيطرة نخبة الحزب الوطني الحاكم على الاقتصاد، وتقريب مبارك لشخصيات مدنية على حساب حصة الجيش.

في مرحلة ثانية، بعد أن تكشف الوجه الإجرامي لأنظمة الحكم تجاه الثورات، ظهرت معزوفة المؤامرة على الجيوش، واعتبار أن الربيع العربي برمته هو مؤامرة خارجية هدفها ضرب الجيوش، دون توضيح لماذا المؤامرة على مثل هذه جيوش ومن أصلا سيتآمر عليها؟ ولا شك أن الهدف من وراء ذلك كان تشويه الثورات، على اعتبار أن الجيش هو المكوّن الذي يجمع كل فئات وطبقات الشعب ورمز الوحدة الوطنية، وأن المكان الذي يقف فيه الجيش هو المكان الصحيح، وكل من في الطرف الآخر هو المخطئ والخائن!

وهكذا تحوّل دور الجيوش العربية من حامية للأنظمة، إلى جهة مهمتها تبييض المجرمين وإعادة تأهيلهم وقهر الشعوب وقتلها بالأسلحة التي تدفع ثمنها من قوت أبنائها.
0
التعليقات (0)