قضايا وآراء

استعمار مصر

عمرو عادل
1300x600
1300x600
هو عنوان كتاب شهير لتيموثي متشيل، صدر في نهاية ثمانينيات القرن السابق، وهذا الكتاب يعدّ واحد من أهم المصادر من وجهة نظري التي يمكنها مساعدتنا في تفسيرات الوضع الحالي الذي تمر به مصر، ويوضح لنا ماذا جرى للمصريين على مدى قرنين من الزمان. فهو ليس كتاب تاريخ، ولكن استطاع أن يظهر في كتابه كيف تم ضبط المجتمع المصري وتغيير كافة تنظيماته الاجتماعية الفكرية، ليصبح منضبطا تماما على نموذج الأرض المحتلة والشعب المحتل.

إن ما حدث على مدى مئتي عام في مصر جعلها نموذجا مثاليا لأي سلطة مستبدة سواء كانت سلطة احتلال أو سلطة عسكرية أقرب إلى الاحتلال، فقد تم تمهيد الأرض في كل الملفات لتصبح مصر وشعبها أدوات تحت السيطرة، إن طبيعة الدولة الحديثة بشكل عام تضع الشعوب تحت السيطرة والتحكم ولكن في مصر الأمر أكثر سوءا وانضباطا، وأثرت عدة عوامل جغرافية وتاريخية على تحول مصر إلى نموذجا مثاليا لبيئة تحت السيطرة الكاملة، وكانت محاولة 25 يناير أحد أكبر المحاولات للخروج من تلك البيئة المحاصرة وما حدث في 30 يونيو و3 يوليو هو تفتيت لتلك المحاولة وإعادة المجتمع للضبط الشامل كما كان من قبل.

من أدبيات الاستعباد والاستبداد هو محاصرة الجميع داخل قوالب محددة سواء في المنزل أو العمل أو حتى الشارع، ولابد من التمييز بين الضبط من أجل السيطرة والنظام من أجل التطوير، فالأول هو محاولة لتحويل المجتمع وأفراده إلى أدوات للإنتاج ومجال لممارسة السلطة؛ أما الثاني فهدفه تحسين حياة المجتمع، ومع الأسف الإجراءات التي تتم لتحقيق كليهما ربما تكون واحدة.

ولذلك يهتم تيموثي ميتشل ومعه ميشيل فوكو بتنظيم والسلطة وطبيعتها كمحدد رئيسي لتحديد أي الطريقين هو الصواب.

على أي حال، هذا موضوع أكثر عمقا من التعامل معه في مقال قصير، وما يهمنا هو كيف أثر هذا التنظيم الشديد الضبط على الوضع المصري وكيف يمكن الخروج من تلك القيود بأقل قدر ممكن من الخسائر.

إن المجتمع المصري لا يزال تحت سيطرة قرار دولة محمد علي بمحاصرة "الفرار" فقد قامت صراعات وانتفاضات وثورات بين رجال الباشا محمد علي وبين المصريين في كل مصر وذلك رفضا للتجنيد الإجباري في جيش محمد علي الذي عارضه المصريين بعنف، وقد تم تنظيم كافة أدوات الضبط في المجتمع المصري من نظام هرمي إداري وأمني لحصار المصريين وضبطهم لمنعهم من الفرار من الخدمة العسكرية، وقد كررنا أكثر من مرة أنها كانت خدمة استعبادية مذلة بمدد لا تنتهي من أجل الحفاظ على ملك محمد علي وأولاده.

وقد أدى ذلك النظام المحكم العسكري الأمني إلى تطبيقه ليس على ضبط الجيش فقط؛ ولكن امتد تأثيره على كل المجتمع ليس فقط لمنع الهروب من الخدمة بالجيش ولكن لمنع الهروب أيضا من السخرة سواء بالعمل في الأراضي الزراعية في كل مصر أو العمل في المشاريع "التنموية" في كل مصر، وأصبح كل مصري هو عبد في مكان ما داخل منظومة مرتبة ومحكمة من الضبط وسط غياب كامل لقوى مجتمعية يمكنها المقاومة، وربما هذا بالضبط ما يقوم به النظام الحالي من تدمير لكل القوى المجتمعية ليصبح الشعب بملايينه المئة فقط أدوات للمراقبة والضبط بأقصى شكل ممكن.

يقول ميتشل في كتابه ص 85 "خلال الربع الثاني للقرن التاسع عشر، جرى تحويل المصريين إلى سجناء لقراهم. وذلك أن مرسوما حكوميا صدر في يناير 1830 قد قصر تحركهم علي مساقط رءوسهم، واشترط حصولهم على تصريح ووثائق تحديد للشخصية إذا كانوا يرغبون في السفر خارجها".

هذا كما أري أحد أكبر مظاهر الضبط فقد تحولت مصر إلى سجن كبير تحت ضبط هائل، وأعتقد أن هذا النظام هو ما زال النظام المسيطر على مفهوم السلطة في مصر، فلا تجد في أي مكان في العالم هذا الخوف الكبير من السطلة كما في مصر ولا تجد أيضا هذا الكم الرهيب من الحصار إلا للمصريين، ربما لا يكون القرار ساريا حتى الآن بشكل رسمي ولكن لا يزال كامنا في عقول السلطة وممارساتها، فالسؤال المتشكك في أي كمين أمني من ممثلي السلطة عن جهة ذهاب أي مسافر هو استمرار للقرار الذي أصبح من مستلزمات السلطة في مصر.

إن الخروج من هذا الحصار الذي لا يزال قائما ويزداد بشراسة بعد انقلاب يوليو يحتاج أولا لإدراك أن الخروج لن يأتي بمجرد تغيير في رأس السلطة أو حتى في إجراءات ديمقراطية سليمة، لأن حجم التشوه الكبير في بنية السلطة استطاع إنتاج نمط ما أقوى بكثير من أعضائه وهو ما نطلق عليه مجازا الدولة العميقة، وهو ما يمكن توصيفه طبقا لفوكو وميتشل بروح الضبط الكامنة في بنية الدولة المستبدة وهي في أكثر الصور قسوة في مصر.

لذلك لا يمكن اعتبار الدعوة للثورة الشاملة دربا من الجنون بل هو عين الصواب وعين الحل، بالتأكيد تزداد صعوبة الثورة في ظروف الضبط الشديد التي تعيشها مصر ولكن يبدو أن ما حدث في الأعوام الستة السابقة يزيد من الاقتناع بضرورة الثورة الشاملة حيث فشلت الموجة الأولى من الثورة التي حاولت استخدام أدوات العملية الديمقراطية والاستعانة بالقوى الشعبية في هذا المجال وتغيير رأس السلطة إلا أن تلك الروح التي توغلت داخل بنية السلطة لم ولن تسمح بذلك.

وبالتالي، أصبح انتزاع تلك الروح الانضباطية المرتبطة باستبداد النظام العسكري المتوغلة في كل مصر هي الحل الأوحد لإنقاذ شعب مصر من كونه فقط أدوات لممارسة السلطة وأدوات لتحقيق إرادة النخبة الحاكمة، واستمرار استخدامه كخزان بشري لتحقيق أحلام الفاسدين والمستبدين، ليس في مصر فقط، ولكن في كل المنطقة.
0
التعليقات (0)