كتاب عربي 21

قصة عالمين

جعفر عباس
1300x600
1300x600
وصلت العاصمة الكندية أوتاوا قبل نحو أسبوعين، وما زلت مرابطا فيها، ولا اعتزم الزوغان في براريها كطالب هجرة أو لجوء سياسي أو اقتصادي، بل اعتزم العودة إلى قواعدي في قطر بإذن الله، قبل عيد الفطر المبارك بساعات.

وأتيت إلى كندا لاستقبال أول حفيد لي، ولا أعتزم الخوض في تفاصيل هذا الحدث السعيد، الذي أكرمني به الله، رغم أن طبيبا ما قال لي قبل سنوات، إنني أعيش في ما أسماه "بونص تايم"، وكان يعني بهذا أنني تجاوزت العمر الافتراضي للمواطن السوداني، حسب تخبيصات منظمة الصحة العالمية، وأن الله أكرمني بحافز زمن إضافي (ومن ثم بونص تايم بلغة الفرنجة).

هذا الحفيد يلخص قصة عالمين، وعنوان المقال كما قد لا يفوت على البعض، مسروق من اسم رواية للكاتب الإنجليزي تشارلس ديكنز "قصة مدينتين"، والمعني بالمدينتين لندن وباريس، بينما أعني بالعالمين، العالم الغربي الذي يشغله "الكفار"، وفي رواية ضعيفة "أهل الكتاب"، وعالمنا العربي الموحد المتماسك بفضل المنظمات الإقليمية التي تعتصم (ولعلها "تختصم") بمواثيقها جميع الدول الأعضاء، وصولا إلى الانتحار الجماعي، بينما تسعى أوربا الكسيحة نحو الاتحاد "الجماعي".

حفيدي هذا سوداني ولكن من الناحية الجينية/ العرقية فقط، فأمه ولدت في فرنسا التي لجأ إليها أبوها طالبا للعلم، صحبة والده الذي كان يعمل في منظمة دولية مقرها باريس، ثم انتقلت عائلتها إلى ولاية فلوريدا الأمريكية، ثم عادت العائلة إلى السودان لـ"سودنة وتعريب وأسلمة" العيال قدر المستطاع، ثم انتهى بهم المطاف في كندا.

أما ولدي السوداني "الأصلي" بحكم أنه نوبي، والنوبيون أقدم من سكن حوض النيل الشمالي، فقد تلقى تعليمه الجامعي في نيوزيلندا، وحصل على فرصة عمل هناك غداة تسلُّمه البكالوريوس، وبعدها بشهور منحوه جواز السفر النيوزيلندي، ولأن بين نيوزيلندا وأستراليا مواثيق مؤاخاة يحترمها الطرفان، فقد فاز الولد "السوديلندي"، بمنحة دراسية في أستراليا وبحق العيش في أستراليا.

وبالتالي فحفيدي هذا ومنذ يوم مولده كندي – نيوزيلندي، بموجب وثائق رسمية صحيحة، وبعد مولده بدقائق تلوت الآذان على أذنه، ثم همست له: إياك وجواز السفر السوداني، لأنه سيعرضك للبهدلة الناجمة عن الشكوك في "ميولك" كلما سافرت إلى بلد ما (هذا إذا منحوك تأشيرة دخول)، كما أنك ستدخل السودان وتخرج بإجراءات أقل تعقيدا مما يتعرض لها جدّك، الذي يتعين عليه كلما دخل السودان وخرج منه، أن يدفع تشكيلة من الرسوم بالعملة الصعبة جدا.

 وأتجول في شوارع وأسواق كندا وأحس بأنني في عاصمة خليجية تعاني من خلل في التركيبة السكانية، فالكنديون الأصليون أقلية حيثما ذهبت في هذا البلد، ومطاعم الشاورما والفلافل والمشاوي والبلاوي تعزز ذلك الإحساس والانطباع، أما الآسيويون وبخاصة الهنود والفلبينيين والسريلانكيين، فلهم مستوطنات خاصة في كل مدينة.

وبين كل ثلاثة عرب في كندا خمسة عراقيين، ولا تحسب أن هذه الجملة المختلة "حسابيا"، ناجمة عن ضعف إلمام كاتب المقال هذا بالرياضيات، فما هو حادث هو أن كثيرين من المستهبلين غير العراقيين، اكتشفوا أن زعم الانتماء للعراق يعزز من فرصهم في الفوز بحق اللجوء السياسي، تماما كما أن هناك سودانيين لم يروا دارفور حتى على الأطلس، وفازوا بحق اللجوء في كندا، بزعم أن عائلاتهم مهددة بالإبادة إذا بقوا في دارفور، وكما أن كله عند العرب صابون فكله عند الكنديين عراق ودارفور وصومال.

المهاجرون العرب الأوائل إلى كندا كانوا مهنيين ومستثمرين، أو كانت حياتهم مهددة بالفعل في أوطانهم الأصلية، ولكن كثيرين من الأوانطجية العرب استغل أحداث سوريا واليمن والعراق للتسلل إلى كندا، دون أن تكون لهم علاقة بتلك البلدان، مستغلين تسامح وتساهل كندا مع المهاجرين، والمؤسف أن بعضهم وبعد أن فاز بحق البقاء المؤقت أو الدائم فيها، صار يتفنن، بل ويتبجح بأنه احتال على "السيستم"، وحصل على تعويضات أو مكتسبات مالية بذريعة أو بأخرى.

في كندا يتقاضى كل مولود 500 دولار شهريا حتى يبلغ من العمر 17 سنة و364 يوما، فصارت هناك عائلات مهاجرة تعيش على التناسل والتكاثر: 5 عيال x 500= 2500 دولار. وهذا دليل على أن العيال فيهم "البركة"، فمن هذا المبلغ يمكن استئجار مسكن متواضع بنحو 600 دولار، وبقية المبلغ بحبحة، بل قد يكون هذا المبلغ بكامله أجرا إضافيا لأن العائلة أم خمسة عيال، قد تتمتع بسكن حكومي مجاني وفوقه إعانة مالية.

والشاهد أن الكنديين شأنهم شأن عموم الغربيين، يقدمون حسن الظن على سوئه، ويفترضون أن الناس يتعاملون مع الأجهزة الحكومية بصدق وأمانة، فيحسب بعض المهاجرين ذلك دروشة وعبطاً، ويتفننون في التحايل على القوانين لتحقيق أكبر قدر من المكاسب المادية، وبالمقابل فإن حكوماتنا لا تثق بنا، ونحن لا نحسن الظن بها، وهكذا فالعلاقة عندنا بين الحاكم والمحكوم علاقة توجس وتربص، وهكذا أيضا فنحن والغرب لسنا عالمين لا قواسم مشترك كثيرة بينهما وحسب، بل وكأننا ننتمي لكوكبين كل منهما محكوم بمنظومة من القوانين الطبيعية والوضعية، تختلف عن تلك المعمول بها في الآخر، ومعظم الدول العربية طاردة لأبنائها وبناتها، وتفتح دولة مثل كندا أحضانها: إليّ، إليّ يا غرباء يا جوعى / كسيرو القلب والأعضاء.

ولكن من مقتضيات الإنصاف أن أقول إن هناك آلاف العرب الشرفاء الذين يحظون بالاحترام الشعبي والرسمي في كندا، لأنهم يؤدون أعمالهم في القطاعين الحكومي والخاص بأمانة وكفاءة، ويربون عيالهم على الفضائل واحترام القوانين، فيرى ويعرف عنهم الكنديين كل ذلك، خاصة وأنه ما من عام يمر، إلا وحظي طلاب عرب بمراكز متقدمة في الامتحانات الأكاديمية، وهل يكون شخص ما متفوقا في دراسته ما لم يكن ابن أصول وحسن التربية؟
0
التعليقات (0)