كتاب عربي 21

المسلسل الهزلي

طارق أوشن
1300x600
1300x600
أحصار هو أم مقاطعة؟ هذا ما أرادته تطورات الأحداث بالخليج، وما أفرزته من مواقف عبر كثير من عواصم العرب والغرب، ليشكل مادة دسمة للفوازير في نسختها الرمضانية الجديدة. الفوازير مادة إعلامية كانت تنافس المواد الغذائية على موائد الإفطار في السنوات الماضية. لكن الواضح أن صناع الفوازير تواروا خلفا فقد ظهر من الساسة من له في هذا الفن باع طويل. لنترك الفزورة للبيانات والتصريحات الصادرة عن دول لا يتورع وزير خارجية إحداها في التصريح أن دولته "مستعدة لتقديم المساعدات الغذائية والطبية لقطر إذا كانت بحاجة لها". صحيح أن شر البلية ما يضحك. والضحك على الذقون "حرفة" أو ملكة لا يتقنها كثيرون عجزا منهم لا تقربا إلا الله أو قوة إيمان أو تقوى.

واقع الحال أننا نعيش فصول مسلسل رمضاني هزلي تتوالى حلقاته في مسار انحدار أخلاقي لا قاع له ولا قرار. والخوف أن نصحو يوما على مشاهد يتحول فيها الهزل إلى فعل درامي، تحاك فصوله في السر والعلن وتطبق بعض مقدماته على الأرض دون حياء، لا يبقي ولا يذر. قطر تحاصر رغبة في تحييدها ومعها آلتها الإعلامية الأقوى، وخرائط تعدل على مقاس "صفقة القرن" ولو كانت البداية مجرد جزيرتين قال الساخرون أن "التابع بغير إحسان" يرضي بها "الشقيق الأكبر" تطييب لخاطره الغاضب من "الجزيرة" الأصل.

المسلسل الرمضاني الهزلي، الذي كُتب له أن يسرق الأنظار ويقلب الطاولة عن نجوم الشاشة المعتادين، قصة عمارة "عربية" متهالكة نخر الدود أركانها منذ عقود، وانتشرت فيها العداوات والحروب والدسائس والاستعانة بالأغراب بين الجيران، لكن هؤلاء مصرون على وهم "الأخوة" و"المصير الواحد" وغيرها من الشعارات في انفصام شخصية استعصى على الشفاء.

في إحدى الأيام نامت العمارة على وقع حملة إعلامية غير مسبوقة شنتها أبواق مأجورة على شقيقة "صغرى" بإيعاز من ثلاث شقيقات أصليات و"أخت" بعيدة النسب لا تكن للشقيقة "الصغرى" أي ود منذ سنوات. اعتمدت الحملة على فبركات ألصقت برب الأسرة وساد الاعتقاد أن الأمر مجرد مناوشات تعودتها الشقيقات الأربع اللواتي يقتسمن نفس الدور مع اثنتين أخريين غيرة من نجاح أو رغبة في السيطرة أو صراعات نفوذ على مواقع في شقق الأدوار الأخرى. لكن الأمور تطورت ببيانات دبرت بليل واتضح أنها كانت جاهزة وتنتظر ساعة الصفر للبدء في التنفيذ.

فجأة، وبدون مقدمات، وجدت شقة الشقيقة "الصغرى" نفسها محاصرة بمن فيها من الأهل والضيوف من كافة الجهات. لم ينقذها من "الهلاك" غير موقعها الاستراتيجي الذي منحها شباكا مفتوحا على الفضاء الفسيح وإن كان مطلا على جارة تسكن عمارة مقابلة. الجارة لا يجمعها الود بكثير من شقق العمارة "العربية" بتهمة تدخلها المتواصل في شؤون شقق كثيرة تمكنت من زرع أتباع لها يثيرون القلاقل والفتن بها. لكنها اليوم واحدة من أكبر المستفيدات من الحصار حيث صارت المعبر الوحيد للشقة المحاصرة نحو بقية العمارات بل مصدرا هاما يؤمن لها احتياجاتها الغذائية الضرورية. الجارة تاجرة بالفطرة وبراغماتية بالسياسة ولها في المجال صولات وجولات بعد أن جربت هي الأخرى بعضا من مظاهر العزل والحصار. وهي بالوضع هذا نموذج لا عيب في الاقتداء به في تقوية الجبهة الداخلية وبناء أسس النهضة والاكتفاء الذاتي وتقليص درجة الاعتماد على الغير مع السعي للحصول على "سلاح" ردع يقيها المؤامرات. هو نفس السلاح الذي اعتمده أخ غير شقيق جسده في شقة غربية لكن روحه ظلت مرتبطة بالعمارة "العربية" فكان نعم النصير الذي قلب حسابات الأشقاء ومن ورائهم ممن اجتمع له أصحاب خمسين شقة أو يزيدون، رغبة من متعهد الحفل الاجتماع أن يتحول الأمر لمبايعة علنية لا صوت نشاز فيها.

ذاع صيت معارك الشقيقات ونزاعها فصارت "فرجة" يتندر أبناؤهن قبل الآخرين ببياناتها وقراراتها التي توزعت بين قطع الأرحام والصلات واستبعاد من علقوا من الأهل قبل قرار الحصار إلى المنع من إبداء التعاطف والتقليب في الدفاتر القديمة بحثا عن صورة أو رسالة أو مشهد،يعود لفترات الانسجام والتنسيق في المواقف، لعرضها خارج السياق بما يخدم الأجندة الحالية دون اكتراث بمروءة تفترضها الأعراف أو فضل ناشئ من مودة سابقة أو نبش في الأعراض يحرمها الشرع والقانون. أحد المتحمسين، وبعد أن خلت جعبته من تبريرات لم يجد غير "المعدة القطرية" سبيلا لدغدغة المشاعر ولي الذراع. وصل بنا الحال أن سمعنا صوتا نشازا يطل من خارج الشاشة، رغم أنه الحاضر الغائب في قلبها، ليطلب من عمارات الدور الخليجي أن يتقوا الله في رمضان.

ولأن العمارة ملئى بشقق تسكنها عوائل فقيرة لم يصلها من ثروة العمارة نصيب، فقد كان التعويل على اصطفافها إلى جانب الشقيقة الكبرى ومن والاها خوفا أو طمعا. واقع الحال أثبت أن الإخراج السيء للمسلسل دفع كثيرين للنأي بالنفس عن الخوض في صراع بلا ملامح مآله الحل ولو بعد حين. غلبت العادة عند البعض رغبة في التطبع، فانساقت وراء قرارات المقاطعة والحصار أو تخفيف مستويات التعامل فدبجت البيانات من نفس المحبرة أملا في مدد مالي أو عطايا.

مع توالي الحلقات وتوافد المبعوثين على الشقق المتصارعة سعيا لرأب الصدع أو إنقاذا لمصالح اقتصادية أو دوائر نفوذلا تخفى، تناسى الجميع الأخت الرابعة "المقاطعة" التي يجد مختطفها، بالغصب والانقلاب على من اختاره الأهل ربا للعائلة بالانتخاب، غير الإيعاز لمن اعتلى منبرا أمامه في اجتماع عائلي داخلي ليعلن له الدعم على خطوته "المباركة" حتى ينبري لممارسة عادته في التعليق. بصمته الوحيدة كانت في لائحة "أشقياء" صدرت، كما العادة، بالليل واحتوت من العجائب والتناقضات ما وشى بمصدرها الذي اعتاد ترهيب العائلة وتصنيف الأبناء لأهل شر وشرفاء. حظه العاثر جعل اسمه يظهر على الشاشات مقرونا بالقاتل والخائن شهادة لم يفلح الرقباء والمخبرين على حجبها فالشهر شهر صيام يقل التركيز فيهوتغفل العيون.الثابت أن ثلة من المرتزقة والشخصيات التي ثبت أنها مجرد أبواق دعاية أو شياطين خرص لا تردعها مواثيق شرف إعلامي أو تعاليم دينية عن الكف في بث الفرقة ونفث السموم بين أبناء وساكني العمارة المتهاوية، أو الجهر بكلمة حق عند سلطان جائر بدل البحث له عن الذرائع والأسباب، ظلت محتفظة بأدوارها على طول الحلقات. هؤلاء هم المرتزقة فاحذروهم.

نهاية المسلسل قد تكون دنت ما لم "يغرد" الراعي الرسمي بغير ذلك من مكتبه البيضاوي. لكن النهاية تحتاج مخرجا متمكنا وكاتبا متمرسا يصلحان ما اقترفته أيدي من سبقاهما. في بعض التجارب يترك تحديد النهاية للمتفرجين لكن الشقق المحاصِرة لن تقبل المغامرة في هذا الاتجاه حيث أن المنع والتضييق والإصرار على الرواية الوحيدة لم تفلح كلها في شحذ الأبناء وراءها، فكيف لها أن تضمن نتيجة تصويت مفتوحة قد تشكل بداية النهاية لعقدة "الخوف" في نفوس أبنائها بشكل يهدد مصالح المالكين بزمام الأمور بها.

أ حصار هو أم مقاطعة؟ ليس الأمر بتلك الأهمية حين تنكشف الوجوه وتسقط الأقنعة ويظهر المعدن الحقيقي للأشقاء قبل الأغراب. فالحرة تجوع ولا تشرب "المراعي".
0
التعليقات (0)