قضايا وآراء

تركيا.. قراءة في المشهد الحزبي الراهن

ماجد عزام
1300x600
1300x600
انشغلت الساحة السياسية والحزبية في تركيا وما زالت بقراءة نتائج الاستفتاء الدستوري الأخير واستخلاص الاستنتاجات المناسبة والضرورية منها.

وبينما تبدو الأمور أوضح أو على الأقل أكثر شفافية وعلانية في الحزبين الرئيسين حزب العدالة والتنمية والحاكم وحزب الشعب الجمهوري أكبر أحزاب المعارضة، فإن الأمور لا تبدو كذلك لدى حزبي المعارضة الآخرين، حيث النار تحت الرماد في حزب الحركة القومية اليميني.

أما حزب الشعوب الديمقراطية – الكردي - فقيادته في السجون، ورغم أنه تلقى ضربة قوية في الاستفتاء واتهامات من المعارضة بعدم السيطرة على جمهوره وقواعده، إلا أن القراءة واستخلاص العبر فيما يتعلق بالنمط وطريقة التصويت الكردي تجري أساساً لدى حزب العدالة والتنمية، حيث تصل بعض المبالغات إلى حد القول أن التعديلات مرّت أساساً بفضل الأصوات الكردية المرجحة في الجنوب الشرقي واسطنبول والأناضول على حد سواء.

للتذكير فقط فقد مرت التعديلات الدستورية في الاستفتاء بفارق طفيف وصل إلى 3 تقريباً، حيث وافق عليها 51.4 ممن شاركوا في الاستفتاء، بينما عارضها 48.6  تقريباً، وكالعادة كانت نسبة المشاركة عالية وصلت إلى 86 بالمائة.

للتذكير أيضاً وللمقارنة فإن 50 بالمائة صوّتوا لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية الأخيرة خريف العام 2015، بينما صوّت لحزب الحركة اليميني القومية اليميني، الذي أيّد هو الآخر التعديلات 12 بالمائة. أما الحزبين المعارضين حزب الشعب وحزب الشعوب فقد نال الأول 24 ، بينما نال الثاني 11 بالمائة تقريباً.

بناء عليه، فإن عشرة بالمائة على الأقل من مصوّتي حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية، امتنعوا أو صوّتوا بـ"لا" بينما  صبّت الكتلة المصوتة لحزب الشعب بكاملها تقريباً لصالح المعارضين، وهو ما لم يحدث طبعاً بالنسبة لحزب الشعوب الذي صوّت ثلث مؤيديه على الأقل لصالح التعديلات.

لتوضيح المشهد أكثر ولرسم صورة عامة وتقريبية، لما جرى في الاستفتاء يمكن اتباع نظرية الثلاث ثمانيات بمعنى أن 8 بالمائة من مصوّتي حزب العدالة والتنمية صوّتوا بـ"لا" -42 بالمائة قالوا نعم - وهو الأمر نفسه لدى حزب الحركة القومية وحزب الشعوب الديمقراطية ما يعنى أن 4 بالمائة من مصوّتي الحزب اليميني صوّتوا بنعم، و3 بالمائة من مصوّتي حزب الشعوب اليساري  بمجموع 49 بالمائة والنسبة  الطفيفة المتبقية المؤيدة أتت من حزب الاتحاد الكبير، وبعض الأحزاب الصغيرة المؤيدة الأخرى.

أما خارطة التصويت المعارضة فيمكن رسم معالمها الرئيسية وفق قاعدة أن مصوّتي حزب الشعب الجمهوري الـ24 صوّتوا بـ"لا" إلى جانب الثلاث ثمانيات من أحزاب العدالة الحركة والشعوب ليصبح المجموع 48 بالمائة تقريباً.

القراءة الحزبية لنتائج الاستفتاء تجري أساساً وفق الصورة التقريبية السابقة، وكما العادة يبدو حزب العدالة والتنمية أكثر جدية وفعالية في القراءة واستخلاص العبر، واستيعاب رسالة التصويت، وهو ما عبر عنه مباشرة رئيس الحزب رئيس الوزراء بن على يلدريم في صباح اليوم التالي للاستفتاء، عندما قال أن الرسالة وصلت وجمهورنا يريدنا أكثر دقة في معالجة بعض الملفات، وهو ما سنعمل عليه في المرحلة القادمة.

ورغم الإعلان عن انعقاد مؤتمر الحزب الحاكم العادي في موعده المقرر العام القادم، إلا أنه جرى عقد مؤتمر استثنائي للحزب فى 21 أيار/مايوالماضى تم فيه إعادة انتخاب الرئيس أردوغان زعيماً للحزب الذي كان قد عاد إليه كعضو بعد الإعلان الرسمي عن نتائج الاستفتاء أواخر نيسان/ إبريل الماضي بعدما تركه حسب الدستور القديم عندما ترشح للرئاسة قبل ثلاثة أعوام تقريباً.

ثمة نقاشات جارية على عدة مستويات في صفوف الحزب ومؤيديه عن أسباب النتيجة المتدنية نسبياً للاستنفاء، رغم أنها كافة طبعاً ديموقراطياً ودستورياً لتمرير التعديلات وإنجاز الهدف، ويجري الحديث عن إعادة هيكلة شاملة للحزب وتغيير معظم قادته الميدانيين ومسؤولي الولايات فيه، والأمر يصل حتى إلى الحديث عن تطهير ليس فقط لمؤيدي أو بقايا مؤيدي جماعة غولن داخل الحزب، وهو الأمر المحسوم كما أعلن الرئيس أردوغان لعدم انتشار المرض والوهن، وإنما حتى لمؤيدى الرئيس السابق عبد الله غول ورفقائه من المؤسسين-بولنت ارينتش ومحمد على شاهين- ورئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو، الذين لم يبدوا حماس كبير للتعديلات الدستورية، وهو ما أثر حتماً على  نمط تصويت شريحة  معتبرة من جمهور ومؤيدي الحزب وقاعدته الجماهيرية.

خطوة إخراج وإبعاد مؤيدي غول أرينتش وداود أوغلو ستكون محفوفة بالمخاطر، وقد تؤثر على شعبية الحزب نفسه، رغم أن حضور أردوغان الطاغي قد يعوض هذا الأمر، كما هي العادة، إلا أنه سيطرح أو يقوي من فرضية تشكيلهم أو دعمهم لتأسيس حزب جديد، خاصة مع الطريقة الانتخابية الجديدة، حيث ستجري الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المتزامنة في يوم واحد على الطريقة الأمريكية بمعنى أن الحزب الجديد، قد يدعم أردوغان مثلاً للرئاسة وينافس بقائمة برلمانية منفصلة، وقد ينزل أحد مرشحيه في الدورة الأولى لتأكيد شعبيته وحضوره، ثم التصويت لمرشح العدالة غالباً أردوغان في الدورة الثانية، ورغم أن هذا الأمر ما زال من المبكر الجزم فيه، ورغم المناقبية العالية التي تعاطى بها الرئيس غول ورئيس الوزراء داود أوغلو مع الخلافات الحزبية والسياسية، إلا أن الاحتمال يظل قائماً ولو من الناحي النظرية فقط.

الملف الكبير الآخر الذي سيجري العمل عليه في حزب العدالة والتنمية، يتعلق  بتحليل استيعاب وفهم نمط التصويت الكردي والخروج بالاستنتاجات الملائمة منه، خاصة أنه كان حاسماً في ظل الاستقطاب السياسي العميق في البلد، ومع الجزم باستحالة استئناف عملية التسوية مع بي كا كا التركي – الإرهابي - وجناحه السياسي حزب الشعوب بعد دعمهم المتغطرس والمجنون لذراعهم في سورية، سيجري العمل على مزيد المشاريع التنموية والنهضة الاقتصادية الاجتماعية فى ماطق الجنوب الشرقى، وإحياء الاتصالات مع وجهاء ورؤساء عشائر وشخصيات كردية مستقلة، إضافة طبعاً إلى تعزيز حضورهم في الحزب صاحب الحضور الكردي الأكثر كثافة وتنوعاً وامتداداً أي حزب العدالة والتنمية نفسه.

حزب الشعب الجمهوري يشهد أيضاً حراك وسجال عميق واسع وعلني حول كيفية قراءة نتائج الاستفتاء والخروج بالاستنتاجات الصحيحة منها، ويتم التباهي بالطبع بنسبة ال  48 ونصف بالمائة والعمل لتجييرها لصالح الحزب نفسه مع خلاف حول كيفية إدارة المرحلة المقبلة.

وكان البارز بهذا الصدد ليس فقط تحدى زعيم الحزب من قبل النائب البارز محرم انجيه، وإنما استقالة المتحدثة باسم الحزب ونائب الرئيس سيلين بوكيه واتهام زعيم الحزب كليتشدار أوغلو بالتضييق على العمل والحراك الديموقراطى داخل الحزب، بينما عبر أحد النواب-ايردال أكسونغير- المقربين من كليتشدار أوغلو عن دهشته وعدم فهمه لأسباب استقالة الناطقة العلامية، والتي اعتبرها مفاجئة حتى، ووصلت الأمور للذروة مع ضغط الزعيم السابق دينز بايكال  وطرحه لفكرة بل ضرورة الاستعداد للانتخابات الرئاسية من الآن وتخييره لكلتشدارأوغلو بين الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة أو إفساح المجال لقائد أخر لمنافسه أردوغان.

غير أن الأهم فيما طرح كله كان اقتراح بايكال نفسه بامكانية التفكير في ترشيح الرئيس عبد الله غول بإسم المعارضة والرافضين للتعديلات الدستورية، ورغم أن الاقتراح هدف في أحد إبعاده إلى تأجيج الخلافات والشك داخل حزب العدالة، إلا أنه أظهر من جهة أخرى ليس فقط تخبط الحزب وإنما قناعة المعارضة بالعجز عن تحدي أردوغان وبالتالى حتمية البحث عن متنافس من نفس البيئة السياسية الفكرية تماماً، كما حصل عند ترشيح  أكمل الدين إحسان أوغلو في الانتخابات الرئاسية الماضية.

السكون مطبق لدى حزب الحركة القومية، ويبدو أن النار تحت الرماد، رغم أن التمرد كان واضحاً في تصويت قاعدة الحزب التي انحازت بثلثيها تقريباً لصالح معسكر المعارضين وصوّتت بـ"لا"، إلا أن خروج معظم المعارضين من الحزب حتى قبل إجراء الاستفتاء والتحديات التي يواجهها البلد داخلياً وخارجياً وتأييد القاعدة  للخطاب وللمواقف السباسية القومية لقيادتها يهدىء ويخفف من التشنج والاحتقان مع أن احتمال تشكيل حزب  قومي آخر يبقى قائماً وجدياً أو رحيل زعيم الحزب دولت بهشلي لسبب ما وفتح الباب  بالتالى أمام مصالحة قومية تعيد توحيد الحزب.

الصمت يبدو سائداً أيضاً لحزب الشعوب الذي تلقى ضربة قوية نتيجة اجتهاداته ومراهناته الخاطئة والخطيرة بعد الانتخابات البرلمانية  العادية-حزيران 2015- التي أجريت قبل عامين تقريباً، وعجزه عن استيعاب وفهم رسالة التصويت له في الانتخابات، وانحيازه المتغطرس المجنون للخيار العسكري ومراهاناته على القوى الخارجية لإقامة كيان كردي في سورية، وحكم ذاتي للمناطق الكردية في تركيا نفسها، ومن الأكيد أن الحزب سيعاني أكثر في الفترة القادمة خاصة مع اعتقال قيادته وأحتمال بقائهم فى السجون لفترة طويلة وهو دفع وسيدفع أثماناً باهظة، بعدما رهن نفسه تماماً لدى قرويين جبال قنديل وذراعهم السوري والتصويت في الاستفتاء كان بالتأكيد اعتراض مدوي على سياسة الحزب ومراهاناته الخاطئة والكارثية بينما تتحدث عدة إستطلاعات مهنية موثوقة عن احتمال جدى بعدم تجاوزه نسبة الحسم فى أى انتخابات برلمانية قادمة.

عموماً فى الأخير وباختصار، نحن أمام مشهد سياسي جديد يتضمن الإقرار الفعلي بنتيجة الاستفتاء، والأمر الواقع بل الوقائع الجديدة التي خلقها، والاستعداد للحزمة الانتخابية الكاملة فى تشرين ثانى نوفمبر 2019 يبدو أنه انطلق من الآن، أقله لدى الحزب العدالة والتنمية وبدرجة أقل لدى حزب الشعب الجمهوري،وستعيش الساحة السياسية والحزبية بشكل أو باخر على وقع تلك الانتخابات حتى مع التحديات الهائلة التى يواجهها البلد فى الداخل والخارج على حد سواء.
0
التعليقات (0)