كتاب عربي 21

التفاؤل أم خداع الوعي؟

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600
هذ المقال ثمرة حوار دار بيني وبين صديق عراقي عزيز رأى في ما أكتب نبرة تشاؤمية لا تكشف الوجه المضيء لتجربة تونس السياسية ولما تعيشه تونس عامة من استقرار ينبئ عن احتمالات تقدم لا شك فيها. وكان يقرأ ما أكتب وهو بالموصل التي يقتل الناس فيها بالمئات لا بالعشرات. ولا يرى أفقا لإنقاذ المدينة العظيمة من العدم. ولقد عذرته وهو يجري المقارنة ويحسب القتلى هناك وقد يكون اختلط عليه الأمر فلم يعرف الشهيد من القتيل. فالوضع في العراق جنوني. بينما ينظر من بعيد إلى الحالة التونسية باعتبارها حالة مثالية لا ينقص التونسيون فيها إلا قليل من الكماليات لتكون تجربة خالية من كل عيب.

زاوية نظره غير زاويتي ولذلك سأبرر له هنا بعض أسباب تشاؤمي بخصوص بلدي الذي أعرف أو أزعم معرفة تفاصيل يومه الدامي بلا مذابح وعسى أن يقاسمني بعض مخاوفي فالقتل درجات لكنه يظل قتلا بشعا رغم اختلاف الأعداد.

آخر القتلى الشهداء

انتهى الأسبوع الأول من شهر رمضان بفاجعة أليمة في تونس. جهة مجهولة اختطفت شابا وذبحته في جبل مغيلة بوسط البلاد. اتفق الجميع على أن الجهة إرهابية مجرمة لكن الموجع في الحادثة أن هذا الشاب الذبيح ليس إلا شقيق طفل آخر تم اختطافه منذ سنة ونصف بنفس الطريقة وفصل رأسه عن جسده وهو في سن السادسة عشر وأرسل الرأس إلى أم الولد في حاوية بلاستيكية فاضطرت إلى وضعه في ثلاجة بيت الجيران حتى يتم جمع طرفي جثته ودفنه. قبل أن يبرد حزنها عن الطفل الأول (مبروك) أرسلت لها جثة الولد الثاني (خليفة).

كان رئيس الدولة وفي إطار تغطية أعوار دولة لا تحمي مواطنيها رغم قواتها المجندة لمحاربة الإرهاب قد استقبل الأخ (القتيل الثاني) ووعده بالحماية له ولأسرته لكن الفتى ذبح قبل أن تصبح وعود الرئيس حقيقة. وإمعانا في القتل بررت الرئاسة فعلها بإصدار قائمة في الأعطيات المادية التي قدمت للأسرة بين الحادثتين على أن ذلك مكارم سلطانية كافية لنسيان الألم.

هذا قتيل واحد بينما كان صديقي العراقي يحسب في نفس اليوم 400 قتيل أطلق عليهم الرصاص وهم يهربون من أمام قوات داعش في الموصل. نظريا يجوز لي التفاؤل فبين الواحد و الأربع مائة فرق عددي كبير لكن لا فرق بين موت الدولتين. الدولة مصدر الأمن وضامنته وهي في الحالتين غائبة ومتخلية والمواطن (البشر ما قبل المواطنة) لا يزال نهبا للقتل المنهجي وسخرية الإعلام. وإذا ماتت الدولة كان التشاؤم على نفس القدر. فنفس واحدة كالناس جميعا وعجز الدولة يدمر الأمل في المستقبل.

فرادة الحالة التونسية عربيا

ربما يكون لأصدقائي العرب ولفرط الألم الذي يكابدون في بلدانهم رغبة في النظر إلى تونس التي يسودها سلام ظاهر على أنها نموذج ناجح في إدارة اختلافاتها السياسية وهم يرونها تتقدم -ولو ببطء- نحو إنضاج حالة ديمقراطية عربية وحيدة في خريطة يسودها القتل والتدمير والاختراق الصهيوني والرجعي العربي والإرهاب المنظم.

هذا التفاؤل في تقديري يبالغ في حسن الظن بتونس وتجربتها، أما مصدر تشاؤمي مقابل تفاؤلهم أو ظنهم الحسن بالتجربة أني أرى التجربة من داخلها وهي أبعد ما تكون عن حالة سلم دائمة أو تمهد لديمقراطية مستقرة، بل هي حالة من تأجيل الاقتتال الداخلي إلى أجل نحن بالغوه في وقت قريب. وسأعود إلى مثال أم القتيلين.

عندما أقارن تدخل الدولة لصالح أم القتيلين أجد أن إعلام الدولة الخاص والعام (والموجه من النظام السياسي) لا يتكرم على الطفلين الذبيحين حتى بلقب الشهادة. فهما القتيلان لا الشهيدان بينما منحت نفس الأدوات لقب الشهادة لأحد أبناء البرجوازية الذي قضى في عملية إرهابية وهو يتمتع بفترة نزهة في ملهى ليلي في إسطنبول (برأس السنة الميلادية) فنظمت له جنازة رسمية وعزى الرئيس ورئيس الحكومة أسرته في مشاهد مهيبة بينما لم يكلف أحد خاطره بجبر خاطر أم الشهيدين في جبل مغيلة.

وعندما أقارن تدخل الدولة بكل طاقمها السياسي والحزبي الحاكم والمعارض لصالح مستثمرة سياحية تعرضت مؤسستها إلى عملية إرهابية فلم يصبها إلا أذى مادي تكفلت الدولة بتعويضه بأموال طائلة. بينما منت على أم الشهيدين الثكلى ببعض المعونة الغذائية. أعرف أن التجربة مطعونة في الصميم وأن ما يجري الآن من تمويه بالسلم الأهلي ما هو إلا تغطية لحيف سياسي لصالح فئات اجتماعية على حساب أخرى. هذا الحيف مؤذن بخراب العمران السياسي والاقتصادي.

هذه الدولة قامت ولا تزال على تأبيد هذا الحيف والاستثمار فيه. وهي مستمرة به لأنه يضمن لها ولاء طبقة غنية قادرة على تمويل طاقمها السياسي وإغراقه بالرشى السياسية والمادية وتطوير سبل الفساد المالي والسياسي. إنها دولة فاسدة في منشئها و ي أسباب بقائها، ولذلك فهي دولة تؤجل الحرب ولا تنفي أسبابها بل هي تقودنا الآن بسرعة كبيرة نحو حالة من الاقتتال قد تكون أفظع من حالة الموصل التي تبكي صديقي العراقي.

العودة إلى أصل الحكاية

نغرق في تمجيد الحالة التونسية الديمقراطية وتسويقها للعرب وللعالم ولكن قلة من يصدق فرادة الحالة التونسية. خطاب تمجيد الذات هذا كان وسيلة الدعاية المفضلة لإعلام بن علي المخلوع ذات شتاء ساخن. تحت ذلك الغطاء الدعائي السمج اكتشفنا زيفا فاحشا. كان هو السبب الحقيقي للثورة فالفوارق الجهوية الاجتماعية كانت فضيحة بأتم معنى الكلمة. شعبان في دولة واحدة. لم يكن النظام السياسي إلا وسيلة لخدمة فئات من الفاسدين تضيف باستمرار وتنشر الفقر والجهل والمرض في بقية القطر المسكين الذي يكافح من اجل البقاء. الانفجار الاجتماعي الذي سار كالنار في الهشيم طلب العدالة أولا وإنهاء حالة الحيف لتأسيس دولة لجميع مواطنيها. لكن بعد سنوات ست عاد الحيف أكثر شناعة وبوسائل منحطة، عبر الترويج لسياسات تخير الشعب بين القبول بالحيف أو الخضوع للإرهاب. إرهاب مشبوه يظهر عند الأزمات لينفس الضغط الاجتماعي عن النظام.

الدولة التي مالت إلى زهرة إدريس صاحبة النزل (خمس نجوم) فعوضت خسائرها وأرسلت كرتونة من المأكل الرخيص لزعرة السلطاني لا تساوي ثمن كرسي هزاز بالنزل المصنف ليست دولة لجميع مواطنيها؛ إنها دولة الطبقة الظالمة. ولذلك يغلبني تشاؤمي وأرى الحرب قادمة فإن لم تكن الحرب فسيكون الظلم الأبدي. الذي لا يسمع لمثلي بالتفاؤل إلا أن يكون متخشب القلب والروح ومتبلد الذهن غبيا.

الناس في الموصل وفي ريف دمشق يموتون بالمئات بقنابل فسفورية أو بزخات رصاص داعش المشبوه الولاء بينما في تونس يموتون بالقهر والظلم. هناك تقتل الأجساد وهنا تقتل الأرواح هناك موت سريع و(ربما موت مريح حاسم) بينما هنا موت بطيء يتفنن في تذويب الإنسان في الغريزي البشع.

من الخارج يرى أصدقائي السلام الظاهر ومن الداخل أرى دبيب الخراب... لذلك يعجزني التفاؤل فأكتب بسوداوية مميتة. إني لا أكفر بالنعمة ولكني لا أخدع أحدا عن نفسه وهذا هو الحد الأدنى للتفاؤل.
1
التعليقات (1)
ناصح قومه
الثلاثاء، 06-06-2017 07:14 م
صدقت؛ واصل تقديم الحقيقة كما هي.

خبر عاجل