كتاب عربي 21

“مساخيط الملك” يظهرون في الريف!

طارق أوشن
1300x600
1300x600
 في نهاية فيلم (عاشقة من الريف – 2011) للمخرجة المغربية نرجس النجار تخاطب "روح" الفتاة الشابة آية المنتحرة قريبتها المخرجة السينمائية (مون) القاطنة بالخارج، وهي التقنية السينمائية التي اعتمدتها المخرجة على طول الفيلم.

آية: مون، عودي.. خذي الكاميرا وأبلغيهم أني أرفض المشي على الطريق بظهر منحن.. أخبريهم أني كنت أنشد السماء الفسيحة.. وأني كنت أحب الجري مع الأمواج وسط الطبيعة وبين الناس.. أخبريهم أني كنت أعشق الشمس والملابس المزركشة والموسيقى... وأني كنت أرفض الأحلام بعينين مغمضتين.. أخبريهم أنّا لا نستبدل سجنا بآخر.. أخبريهم أن عمري كان عشرين عاما وكان منتهى أملي أن أعشق وأن أحب.

هو حديث من فتاة أرادت لها المخرجة أن تكون ابنة لمنطقة الريف بالشمال المغربي. لكن كلامها الخاص أقرب ما يكون للتعبير عن واقع وطموحات منطقة كاملة كانت علاقتها بالسلطة المركزية مشوبة بالحذر والتوتر وغياب الثقة لعقود ولا تزال.

لأجل تلك الكرامة والسعي للحرية ورفض المهانة تمت الدعوة اليوم الخميس لإضراب عام بمدينة الحسيمة يطمح الداعون إليه ليشمل تراب الريف كاملا تتوقف خلاله مظاهر الحياة التجارية والاقتصادية على أن تختتم بمسيرة "تاريخية".

وفي المواجهة تكثيف غير مسبوق للوجود الأمني للدولة المغربية بما ينذر بانفلات الأمور من عقالها. ولم يكن الوصف الذي أطلقه عدد من ممثلي أحزاب الأغلبية الحكومية على المتظاهرين باعتبارهم "انفصاليين"، إثر اجتماعهم بوزير الداخلية، إلا صبا للزيت على النار تماما كتصريحات أحد وجوه الحراك بالريف، ناصر الزفزافي، الذي لا يعدم مناسبة لرفع سقف الخطاب اللفظي تحرشا برموز الدولة ومؤسساتها واستحضار تجارب سوريا والجوار الليبي فزاعة للتهديد.

في العام 1999، ومباشرة بعد اعتلائه عرش المملكة، قام العاهل المغربي محمد السادس بزيارة اعتبرت وقتها "تاريخية" للمنطقة حاملة معها وعود وآمال المصالحة بين المركز والأطراف المهمشة بالشمال التي تحولت مع مرور السنوات لأوراش كبرى غيرت وجه المنطقة دون أن يجني جزء من الساكنة ثمار تلك الحركة الاقتصادية الناشئة.

 وربما كانت للرواسب التاريخية التي ميزت تاريخ العلاقة بين الطرفين الأثر الكبير على أزمة الثقة الكفيلة وحدها ببناء علاقة مواطنة كاملة. ولعل في التصريحات التي تتهم الريفيين بالسعي للانفصال ومقابلها الذي يمجد فترة الاستعمار الإسباني للمنطقة في تناقض تام مع استحضار زعامة عبد الكريم الخطابي، دليلا على أن وراء الأكمة ما وراءها.

ففي خضم حرب "الرموز" ومحاولات الإخضاع، حاولت الدولة حصر منطقة الريف في النيني وحميدو الذيب وغيرهما من أباطرة الاتجار بالمخدرات كما يقدمون، أو دعاة انفصال عن الدولة المركزية لا ينفع معهم غير القصف بالقنابل كما حدث في العام 1958 أو المواجهة الدموية للانتفاضات كما شهدتها المنطقة في العام 1984. تحول المنطقة لمزرعة مفتوحة لمحاصيل الحشيش أمر واقع لا ينكره أحد.

 لكن السؤال يبقى عما وفرته الدولة لتنمية المنطقة وتوزيع الثروة بشكل تنتشل الطبقات الشعبية من السقوط في شراك إغواء "الإثراء السريع". الصورة النمطية لا تزال غالبة..

(عاشقة من الريف) مجددا..
يوجه الأخ الأكبر عهد كلامه لكاميرا (مون) بعد أن يطلب من أخته آية الالتقاء ببارون المخدرات الذي يشتغل تحت إمرته.

عهد: لم تنظرين إلي هكذا؟ إنه رأس الحربة في هذه الجبال. المخدرات مصدر رزقنا. هل تعتقدين أننا نعيش من بيع فواكه البحر.

كان أمل (عهد) أن يمنحه البارون قطعة أرض يزرعها حشيشا.

وعند عودته من زيارة مزرعة حشيش البارون بمعية (آية) و(مون) يواجهه الأخ الأصغر (حفيظ).
حفيظ: أين كنتم؟
عهد: ما الذي تعنيه؟
حفيظ: عهد.. لا تنس أن والدنا هاجر للعمل في إسبانيا بين فضلات السمك ورائحته الكريهة حفاظا على شرف هذا البيت.

وبجانب سيارة الوالد الغائب يتواصل الحوار في مشهد آخر.
حفيظ: ما الذي فعلته؟
عهد: الشحنة كانت فارغة.

حفيظ: ولم أرسلت أختنا عند ذلك الذئب.
عهد: ذاك الذئب هو من سيمنحني أرضا أزرع فيها مخدرات لحسابي الشخصي.
حفيظ: هو سيمنحك الأرض. لكن مقابل ماذا؟
عهد: يقولون إنه رجل طيب. هو أولى بالدخول بها من غيره. وإذا كانت ذكية في التعامل معه فربما يتزوجها.

ومع إصرار عهد على أن تواصل الأخت الصغرى زياراتها للبارون تقف الأم في مواجهة ابنتها.
الأم: ما الذي يريده منك؟ (متحدثة عن الأخ الأكبر)
آية: أن أكون باغية.

ولأن الشرف صار بالإمكان رتقه، فقد بادرت الأم إلى مصاحبة ابنتها إلى مصحة طبيب يعيدها "سيرتها الأولى". وفي مواجهة الإبن "العاق" كانت صدمة الحوار.

الأم: ألا زلت مشغولا بحساب الهكتارات التي ستجنيها من "مؤخرة" أختك.. (ينتفض الإبن من "هول" ما سمعه من والدته) اجلس مكانك.. صدمك سماع هذا الكلام مني.. أنت محق في ذلك بُنيّ فالفساد ممارسة وليست قولا..  لقد صار لأختك عرض جديد من اليوم ولن أترك أحدا منكم يتاجر بها.

في الفيلم، ساكنة الريف مجرد بغايا وتجار مخدرات وبائعو نخاسة ولو كانت من الأصول وذوي القربى. وهي الصورة التي تم تكريسها على مر السنوات معززة بتهميش تام تركت خلاله المداشر والمدن الريفية (وليست وحيدة في هذا الوضع) للمجهول ولإحسان من نجا من الأهالي وتحول لاجئا اقتصاديا ببلدان أوربا.

كان الرد على صفة العمالة لأجندات خارجية التي اتهم بها الحراك بالريف على لسان "قادة" أحزاب الأغلبية الحكومية، أن ما تتوصل به العائلات الريفية من أبنائها بالخارج هو ما يسد رمقها، وإن كانت تلك الأموال هي عربون العمالة فأهلا بها.

نفس أبناء المنطقة هناك بدول القارة العجوز لم يبخلوا على الحراك بلجان دعم، تختلف أجنداتها وارتباطاتها، عملت على إيصال صوت الداخل إلى الخارج بما يرمي أثقالا إضافية على عاتق الديبلوماسية المغربية المشغولة بملف الصحراء. وقد كان مثيرا حديث كثيرين على أن ما يحدث بالريف اليوم استنساخ لتجربة ولادة جبهة البوليساريو بالصحراء التي كانت بالمناسبة تحت الاستعمار الإسباني.

استمر حراك الريف سبعة أشهر كاملة منذ مقتل بائع السمك محسن فكري، الذي فضل سمك بلاده على سمك الإسبان كما فعل والد عهد وحفيظ وأية العاشقة من الريف، ليلة الثامن والعشرين من شهر أكتوبر الأخير، وبدل أن تبادر الدولة لحلحلة الأمور وتفادي تدحرج كرة الثلج، قضت نفس المدة في عبث انسداد حكومي كان الهدف منه الإطاحة برئيس حكومة معين، كان بالإمكان أن يطلب منه البقاء في بيته ليريح ويستريح بعد أن "يتوضأ ويصلي".

اليوم، أصبحت نذر المواجهة أقوى خصوصا بعودة مظاهر العسكرة والتكثيف الأمني، وهي كلمة كانت سببا في سجن ناشط من المنطقة في تسعينيات القرن الماضي انتقد "عسكرة الشمال" في برنامج تلفزيوني.

كما أن غياب محاور، مٌعبر سياسي للحراك، قابل للتفاوض وفق رؤية مؤطرة مسؤولة سياسيا ونقابيا ومؤسساتيا، يشكل اليوم الخطر الأكبر على اتجاه الأحداث خصوصا مع إضعاف الأحزاب محليا ووطنيا و"اختفاء" مريب لفاعلين كانوا يقدمون على أنهم مؤثرين في المنطقة كرئيس مجلس المستشارين حكيم بنشماس ورئيس جهة طنجة – تطوان – الحسيمة، يجعل الموضوع أكثر تعقيدا.

لقد راهنت الدولة، على ما يبدو، على احتواء الحراك وربح الوقت بما يسمح بتآكله من الداخل، لكن "صمود" الجهة المقابلة ضيق عليها مجالات التحرك  بشكل دفع بعضا من أركانها لاستحضار مفاهيم "الخرافة الاجتماعية" و"الفتنة" و"العمالة للخارج" و"الانفصال" وهي المعادل الآني لمفهوم "مساخيط الملك" في العهود الماضية .

 لكن التجربة علمتنا أيضا أن الدولة نجحت دوما في اختراق الانتفاضات والحركات الاحتجاجية بالنفخ في أشخاص محددين يدفعون للقيادة، بوعي منهم أو دونه، وتقديمهم كمعبرين عن القواعد مع العمل الحثيث على دفعهم لارتكاب الأخطاء بالشكل الذي يسهل مأمورية المواجهة والانقضاض عليها.

المقدمات الطبيعية لتكرار مآسي الماضي متوفرة وظاهرة للعيان، لكن مآل الأحداث سيتحدد حتما اليوم الخميس بإضراب عام يستحضر تجربة الرابع عشر من ديسمبر 1990 بفاس ولا يغفل تواريخ أخرى مؤلمة بعرض جغرافيا الوطن شمالا وجنوبا، غربا وشرقا.
 
 
0
التعليقات (0)