قضايا وآراء

لعنة اليمن في تاريخ الصراع المصري/ السعودي/ الإيراني

عبد الله الأشعل
1300x600
1300x600
تتلخص المأساة اليمنية الآن في خمسة عناصر أولها تدمير البنية التحتية الضعيفة وقتل الشعب الآمن في إطار صراع محموم لا علاقة للشعب اليمني به ويخرج عن سياق التطور الداخلي.

العنصر الثاني هو توطن إرهاب القاعدة وداعش، والعنصر الثالث هو تمكن القبلية وضعف الدولة والسياسة، وهذا العنصر هو الذي أنشأ العنصر الرابع في المأساة وهو بروز قضية الجنوب وشعور الحراك الجنوبي بأن الجنوب محتل من جانب الشمال. أما العنصر الخامس فهو الصراع السعودي الإيراني.

والنتيجة أن تفاقم هذه العناصر الخمسة لأسباب كثيرة ومنها فراغ السلطة في الداخل الذي استدعى التدخل الخارجي في فترات مختلفة، يؤدي في النهاية إلى تحويل اليمن إلى ساحة للصراع والشقاء بلا أفق لأي حل.

ولذلك، فإن محاولات التسوية منذ الثورة اليمنية عام 2011 كان هدفها فيما يبدو إعادة رسم خريطة اليمن بتكريس عناصر المأساة دون التطرق إلى حل مشكلات هذه العناصر. أما كيف تشكلت هذه العناصر الخمسة، فهذا هو موضوع  هذه المقالة.

القبلية في اليمن هو تركيب اجتماعي تاريخي، وتشكلت السلطة في العاصمة مع مراعاة هذه التركيبة، ولكن هذا الوضع ضمن ألا يغادر اليمن العصور الوسطى خصوصا مع قلة إمكانياته المادية. ولذلك كان البون شاسعا بين محافظات اليمن وميناء عدن الذي احتلته بريطانيا، وكان نافذة اليمن على العالم الخارجي، ونشأت فيه طبقة عمالية تفاعلت مع أحداث العالم العربي، وكانت عدن بهذه المثابة أحد محطات مصر الناصرية في صراعها ضد الاستعمار البريطاني ودعوتها إلى القومية العربية.

ولذلك، كانت عدن الأسبق إلى التفاعل مع هذه التيارات، وصارت عدن أشد انفتاحا من بقية الأراضي اليمنية، ولهذا صارت عدن وحدة قائمة بذاتها واستقلت عن بريطانيا وطبقت النظام الشيوعي الأقرب إلى الاشتراكية العربية في مصر آنذاك في منتصف الستينات من القرن الماضي. وإذا كان وضع عدن الأقرب إلى الحالة في مصر، فقد كان يمثل تهديدا شديدا للحالة السعودية من الناحية الأيديولوجية بل ونظر إلى عدن على أنها من نذر التسلل السوفيتي إلى العالم العربي والخليج.

وفي عام 1962 قام الضابط عبد الله السلال، ربما بترتيب مع مصر المتعاونة مع موسكو آنذاك بأول انقلاب عسكري في اليمن وسارع عبدالناصر إلى مساندته بالتدخل العسكري المباشر، وهذا الحدث بالنسبة لعبد الناصر كان تلطيفا للإهانة التي مثلها الانقلاب في سوريا على دولة الجمهورية العربية المتحدة خاصة أن اليمن تطل على باب المندب، وهو ما تكشفت أهميته في حرب 1973 مع إسرائيل. كذلك نظر عبد الناصر إلى الوجود المصري في اليمن على أنه توسيع لدائرة الحرية ومناهضة النظم الملكية "الرجعية" وبالأخص النظام السعودي الذي كان في عداء سياسي حاد مع عبد الناصر.

من الناحية الأخرى، نظرت السعودية إلى التدخل المصري على أنه تهديد لحليفها الإمام أحمد وللنظام في اليمن المرتبط مباشرة بأمنها القومي خاصة في ضوء تعقيدات تاريخ قضية الحدود والصراع بين السعودية واليمن وأهمية ضمان السعودية لولاء النظام في اليمن.

كان التدخل المصري في اليمن إذن انتصارا للمعسكر "التقدمي اليساري" العربي المتسق مع موسكو وضربة في قلب الحصون السعودية والنظم "الرجعية". ولكن السعودية حاربت هذا "التطاول" المصري على أمنها القومي وصارت المواجهة العسكرية في اليمن واجبة إضافة إلى الحرب السياسية والإعلامية.

هكذا نشأ صراع في اليمن بين الجمهوريين والملكيين، ساندت فيه مصر وموسكو معسكر الجمهوريين، بينما ساند الملكية كل من السعودية والأردن وإسرائيل وبريطانيا وإيران الشاه وواشنطن، وتطور الصراع وتعمق التدخل والاستنزاف لمصر ولجيشها وثرواتها في مستنقع اليمن التي تقع في نطاق الهيمنة السعودية آنذاك. وإذا كان الصراع قد انتهى بانتصار الجمهوريين وزوال الإمامة، فقد أفضى إلى كارثة لليمن وكارثة تاريخية لمصر ودورها، فكانت أولى الثمار المرة لليمن هي هزيمة 1967 التي لا تزال بصماتها تقعد مصر عن الانطلاق حتى اليوم.

كما كان طبيعيا أن تتقدم السعودية لكي تملأ الفراغ مع سقوط مصر وبرنامجها الاشتراكي الجمهوري الوحدوي، وإن كانت هزيمة مصر لم تمنع من وقوع انقلابين في وقت متقارب عام 1969 في ليبيا والسودان، وكانت مصر لا تزال تلعق جراح الهزيمة المدوية التي أنهت حياة عبدالناصر وإن دفن عام 1970، ولكن عبد الناصر في قمة الخرطوم في أغسطس 1967 أعلن توبته عن خطئه في معاداة السعودية و"النظم الرجعية" التي تحالفت مع الاستعمار لهزيمته بينما ظهرت السعودية كبديل في قيادة المنطقة وفي لملمة جراح المهزومين العرب تحت شعار إزالة آثار العدوان.

أما في اليمن، فقد تعاقبت عليها الانقلابات العسكرية وازداد اهتمام السعودية بها لإعادة ترتيب أوضاعها دون أن يضيرها أن يكون النظام الجمهوري العسكري هو الحاكم في اليمن، حيث ثبت أن كل النظم الجمهورية العربية وقعت في قبضة المؤسسة العسكرية.

كانت المصلحة السعودية تقتضي وجود أوضاع معينة في اليمن، وهي ثلاثة الأول حاكم عسكري فاسد وشيوخ القبائل الموالون لها وهم ورقة في يدها إذا انحرف الحاكم العسكري عن الطريق، ومن ورائه شعب يعاني ووحدة مفروضة بالحرب بين الشمال والجنوب عام 1990 بمجرد سقوط الاتحاد السوفيتي، ولما حاول الجنوب الانفصال عام 1994 ساعدت السعودية ومجلس التعاون حكومة صنعاء لإرغام الجنوب على هذا الزواج تحت ستار الوحدة في حكومة مركزية فاشلة وفاسدة.

هذا الوضع أدى إلى دخول القاعدة أو إدخالها أمريكيا إلى اليمن وإطلاق يد واشنطن في البلاد، وتدهور أحوالها، واتجاه علي عبدالله صالح حليف السعودية السابق إلى توريث نجله وهو قائد الجيش. ثم بدأت الاتجاهات الانفصالية في الجنوب تتزايد مع درجة من مقاومة الحكومة في صنعاء وفي ظل ضعفها، وبرزت القبلية والطائفية ومن ضمنها الحوثيون وهم أنفسهم الذين حاربوا الجيش المصري مع السعودية في اليمن.

هكذا أدى الصراع المصري السعودي في اليمن وعلى اليمن إلى هذه الأوضاع البائسة حتى انفجرت الثورة اليمنية في شباط/ فبراير2011 ضمن ثورات تونس ومصر للتخلص من النظام الفاسد والتبعية والطائفية والقبلية وبناء دولة حديثة عادلة في اليمن.

وقامت الثورة في وقت كان الصراع السعودي الإيراني قد بلغ حدا هائلا، فكان طبيعيا أن تدخل الثورة اليمنية في أتون هذا الصراع. فقد أيدت إيران الثورة وتمنت أن تكون ثورة إسلامية كثورتها حتى وإن لم تكن شيعية، أما السعودية والخليج، فقد صدمت بثورة تقوم في منطقة نفوذها وضد أوضاع هي طرف فيها، فكانت الثورة بمعنى ما تحديا لها أيضا، ومن ثم بدأت محاولات احتوائها بالمبادرة الخليجية ومساعدة مجلس الأمن ومناهضة عناصر الثورة ودعم نظام على عبدالله صالح حليف السعودية، فأدى ذلك إلى سيولة الأوضاع في اليمن، مما أدى في النهاية إلى ظهور الحوثيين كقوة عسكرية وسياسية متماسكة تحالفت مع صالح وحاولت السيطرة بالقوة على نظام اليمن وصناعة نظام جديد.

كان طبيعيا أن تنظر السعودية إلى هذه الخطوة في ضوء الصراع المحموم مع إيران على أنها صفعة إيرانية للسعودية في عقر منطقة نفوذها، فقررت السعودية التصدي لهذا الاتجاه بعاصفة الحزم القائمة على افتراض أن تحكم الحوثي في اليمن يجعل اليمن وكرا لنفوذ إيران، مما يهدد الأمن القومي السعودي المباشر، فكانت الهجمة هدفها إظهار القوة وحرية الحركة للسعودية مقابل ظهور إيران في لحظة اتفاق فيينا مكتوفة الأيدي، فإن تدخلت لدعم الحوثي وقعت حرب واسعة خارجية يتم فيها اصطياد القوة الإيرانية، وإن سكتت إيران ظهر عجزها عن حماية أنصارها. ولكن وراء هذه النتيجة دمار اليمن ودمار مؤسساته وبنيته التحتية.

وهكذا رسمت مصر والسعودية صورة مأساة اليمن، فضربت لعنة اليمن مصر، ثم ترسم السعودية وبشكل مباشر، وإيران بشكل غير مباشر مأساة اليمن للمرة الثانية.

والمؤكد أن لعنة اليمن سوف تضرب السعودية أو إيران أو هما معا. لحقت لعنة اليمن بمصر بسبب التحالف الإقليمي والدولي ضد جيش يحارب خارج أراضيه بصرف النظر عن مشروعية السبب في ذلك الوقت، ولأن عبد الناصر وضع كل ثقله وراء نصرة الانقلاب – الثورة في اليمن، ولا يزال الشعب اليمني منقسما حول تقييم موقف مصر.

فهل تلحق اللعنة السعودية وإيران؟ المحقق أن إيران لن تتورط في اليمن، وإن كان انتصار الحوثيين في إطار الصراع الإيراني/ السعودي يحسب لإيران وأن هزيمتهم لن تنهي ملاحقة السعودية داخل حدودها، ولذلك فالأرجح لدينا أن السعودية، أيا كانت حساباتها ووجاهة هذه الحسابات ومبررات عملية عاصفة الحزم، فإنها سوف تتحمل تبعات لن تنتهى بتسوية سياسية، ولكنها لعنة أخف كثيرا مما لحق بمصر، لأن السعودية تحارب في نطاق منطقة نفوذها ودفاعا عن مفهومها للأمن القومي السعودي فضلا عن تشجيع البيئة الإقليمية والدولية لها القابلة للتحول.

فانتصار السعودية العسكري لن يؤدى إلى انتصار سياسي، وهى في النهاية سوف تتحمل إعادة بناء اليمن، لأن عملية إعادة البناء هي التي تقرر نفوذ الطرف الأقدر على ذلك، إن لم يعتبر اليمنيون أن إعادة البناء من جانب السعودية هو إصلاح لما دمرته عاصفة الحزم. نحن نأمل ألا تلحق السعودية مثل هذه اللعنة، فهي الدولة العربية الوحيدة التي إن ضبطت حساباتها يمكن إعادة بناء النظام العربي حولها بعد تراجع مصر وخروج العراق وسوريا.
0
التعليقات (0)

خبر عاجل