كتاب عربي 21

غزة: المقاومة والثورة تواجه الإرهاب

حسن أبو هنية
1300x600
1300x600
مع دخول البشر المستضعفين عصر العولمة النيوليبرالي الإمبريالي الحزين، بات الحديث عن الثورة والمقاومة ردة نكوصية بربرية يعاقب عليها إله السوق المتين، وهرطقة بدعية تستوجب الطرد والحرمان من الدخول إلى جنة بيوت العبادة الاستهلاكية ونعيمها المقيم، لكن غزة فضحت أنبياء الديانة السلمية وسدنة الثورة المضادة، التي عملت على تقويض ثورات الربيع العربي وإعادة إنتاج الأنظمة السلطوية، وسعت إلى استكمال عناصر ديانتها عبر البوابة الغزية، فمنذ بدء الهجوم العدواني الإسرائيلي "الجرف الصامد" على قطاع غزة في الثامن من تموز/ يوليو بدا المشهد العربي سورياليا بالكامل، فقد استُقبل الهجوم  باعتباره تحريرا للإنسان الفلسطيني من سلطة "حماس" الفاشية الإرهابوية، وهي ذات الذريعة التي استخدمتها الثورات المضادة في مواجهة حركات المقاومة والقوى الثورية، فسياسات "الحرب على الإرهاب" هي الركن المكين في الانقلاب على أحلام الثائرين والمقاومين بالحرية والعدالة والديمقراطية والكرامة الانسانية.

عبر سنوات طوال عجاف خلت تمكنت منظومة القمع الدولية المنظمة من الترويج  لفشل خيارات المقاومة المسلحة والثورة العنيفة باعتبارها عملا همجيا بربريا، ففي زمان مضى كانت المنظمات الفلسطينيّة تصرّ على اعتبار نهج الكفاح المسلّح طريقا وحيدا للتحرر والتحرير، وفي أيامنا بات الحديث عن المقاومة والثورة أمرا مخجلا ينبغي التبرؤ منه ونبذه واستنكاره، فهو شأن مسييري شؤون العولمة السعيدة العارفين بمواضع استخدام العنف وتعميمه في سائر أطراف الأرض تحت ذريعة "الحرب على الإرهاب" من أفغانستان إلى العراق، ولم تنقطع المواعظ الأخلاقية والبيداغوجية الأمريكية بوصاية الشعب الفلسطيني بعدم جدوى العنف وضرورته لتحقيق أهدافه المشروعة، وفي الوقت الذي استنكرت استخدام العنف من طرف منظمة التحرير الفلسطيتية ضد المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية, ووصمت كافة فصائلها بالإرهاب،إلا أنها لم تبخل عليها بالسلاح بعد أن استدخلتها في منظومتها الكونية، كي تستعمله عقب أوسلو ضد المناهضين لديانة اللا عنف الجديدة من الفلسطينيين الذين أصروا على نهج المقاومة والثورة. 

قرّروا أنّ الانتفاضات العربيّة هي عقائديّاً وفلسفيّاً لا عنفيّة. قرّروا بالنيابة عنّا جميعاً أنّنا وصلنا بهداية صهاينتهم إلى العقيدة اللاعنفيّة، وأنّنا لن نقبل منها بديلاً. قرّروا أنّنا قرّرنا تلقّي العنف من دون ردّ أو جواب. قرأ كتابات ضد العنف لجامعي أميركي مُتقاعد، اسمه «جين شارب». حاولتُ إقناع الصحافيّة المثابرة في الجريدة عينها بأنّ الرجل غير معروف.

لعل أحد أغرب الاستنتاجات الساذجة التي برزت عقب ثورات الربيع العربي تمثلت بدوغما الديانة اللاعنفية، وتصديق ترهات "جين شارب" وجدوى تكتيكات اللا عنف الروحاني المدني، حيث بات غاندي متوجا على عرش التغيير العربي، إذ أصبح أنصار الجهاد المدني مستبصرين بمآلات الأمور وعمق التدبير، وغدت أطروحات أبو الكلام آزاد ووحيد خان في شبه القارة الهندية وجودت سعيد وخالص جلبي في العالم العربي كنزا تأخر اكتشافه, ولكن سرعان ما استيقظ الجميع على وقع القتل والسحل والاعتقال والتدمير والخراب في أرض الثورات السلمية، وانكشف سراب اللا عنفية في غزة على نغمات هدير الدبابات وآلات قتل المدنيين من الأطفال والنساء والشيوخ العزل، وهدم المدارس وتفجير المنازل وقصف الطائرات، ألا تذكركم الحرب بما قاله فرانتز فانون: "ما أشدّ سذاجة اللاعنفيين: لا هم ضحايا ولا جلادون! لنكن جديين!".

الوصفة اللا عنفية للنضال تأمركم بالقبول والاذعان والخضوع لهيمنة الدولة وسلطاتها الأمنية والعسكرية مقابل منح المستضعفين المساكين وهم الأمن والاستقرار المذل، ففي ظل الأنظمة العولمية النيوليبرالية والإمبريالية الكونية، لم يعد الأمر ممكنا بعد أن بات عنف الدولة الكونية والوطنية في مرتبة العنف والارهاب المطلق، وبعد أن أصبحت المظاهرات وحركات الاحتجاج تعامل كشغب عنيف يعطل الانتاجية ويهدد السلامة العامة والاستقرار، فحالة النفور من العنف جائت كمحصلة تراكمية لحالة الحرب والاستبداد والطغيان التي طبعت القرن الماضي تحت مظلة العقائد والإيديولوجيات المختلفة لبلوغ الحياة الفضلى، وهي التي أودت إلى ترسيخ أنظمة الضبط والرقابة ومبدأ الحروب الاحترازية، الأمر الذي قاد أنصار اللا عنف إلى ساحة الميتافيزيقيا، وميدان الطهورية التمامية، فالعنف ليس خيارا كما تخيّل أنصار نظرية اللا عنف من ذوي النوايا الحسنة والاخلاقيات الفاضلة، وإكراهات العنف البنيوي المنظم من طرف الدولة السلطوية المتحكمة بانتاج الشروط والظروف الموضوعية بتعميم الفقر والبؤس والظلم لا يدع مجالا للتغيير السلمي والتكتيكات اللا عنفية، فلا يعاني "معذبوا الأرض"  بحسب فرانتز فانون من أمراض نفسانية مزمنة، ومرضهم الوحيد هي سلاسلهم التي سيتخلصون منها.

لقد بات واضجا وجليا لماذا فشلت الثورات السلمية، ولماذا نشهد صعودا لنهج الجهادية العالمية، فهذه الحركات أدركت منذ البداية طبائع الدولة القمعية العميقة وبنيتها العنفية، وراهنت على أن تحقيق الانقلابات على الحكومات اللا عنفية المنتخبة ديمقراطيا يمر عبر تطبيق استراتيجيات "الحرب على الإرهاب" وتبني تكتيكات "مكافحة التمرد" وفرض حالة "الاستثناء"، إذ تحمل السيادة معها "سلطة على الحياة" عن طريق حكم الاستثناء، كونها سلطة فوق القانون باعتباره القوة المكوِّنة لها، إضافة إلى كونها أيضاً حامية لتطبيقه، والحاكم كما وصفه الفيلسوف كارل شميت هو الذي يستطيع إعلان حالة الاستثناء، وإذا كانت جماعات الإسلام السياسي التي استدخلت رغما عنها في نادي الإرهابيين، فإن الجهاديين المعولمين لا يحفلون بتصنيفات السياسيين .

لقد بات واضحا  منذ أحداث 11/ سبتمبر 2001 أن فرض حالة الاستثناء تحت غطاء "الحرب على الإرهاب" هو الوضعية المثالية المعاصرة للانتقال من الحيز السياسي والدخول في أفق البيوسياسي، فالإرهاب كما بات واضحا بحسب جوزيف مسعد: اسمٌ غير مفترض، وإنما مفروض دائما؛ فالمفهوم التصنيفي الذي يحوله من ممارسة إلى هوية مفهومُ خاص لا يتسم بالتعميم، ففي الوقت الذي تصف سلطة الدولة بعض الممارسات بالإرهاب، وتنعت مرتكبيه " بالإرهابيين"؛ فإن جميع من يوصفون بالإرهابيين يرفضون هذا الوصف المفروض عليهم من طرف الدولة، وإذا كان شرط الهوية ينطوي على شقين: موضوعي، وذاتويّ (أي المناداة والاستدخال) فإن الهويات الإرهابية لا تزل مفاهيم تخضع للنقاش والسؤال؛ فهي لا تزال تحت سيطرة عدوٍّ يحكم قبضته على رأس السلطة، ويتحكم بمجمل وسائل تصوير وتمثيل الهويات. 

تصر المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلة على وصف جيشها بـ "قوات الدفاع الإسرائيلية"، وبهذا فجيشها هو في حالة دفاع مشروع، أما المقاومة فهي عمل إرهابي، وبحسب مسعد: يقوم منطق إسرائيل على النحو الآتي: يحق لإسرائيل أن تحتل الأراضي الفلسطينية وأن تحاصر الشعب الفلسطيني في بانتوستانات محاطة بجدار فصل عنصريّ، وأن تجوِّعهم وتمنع عنهم الكهرباء والوقود، وأن تقتلع أشجارهم وتجرِّف أراضيهم وتبيد محاصيلهم، وأن تُغير عليهم متى شاءت وأن تغتال من شاءت من قادتهم المنتخبين. أما إن قام هذا الشعب بمقاومة هذا الهجوم الإسرائيلي الكاسح الذي يستهدف حياتهم ونسيجهم الاجتماعيّ، فإن ردّ إسرائيل بذبحهم جماعيّاً لا يعدو أن يكون "دفاعاً: إسرائيلياً عن النفس كما هو واجب ولازم على إسرائيل.

في هذا السياق يؤكد إدوارد سعيد على أنه: "يبرر الإرهاب الإسرائيلي العمومي ضد فكرة الوطنية الفلسطينية، لا سيما حين ينضم إليها سلاح الجو والجيش والبحرية، والخطاب الإداري، ودراسات أكاديمية على مستوىً من العظمة، لا يسعها إلا أن ترسم كاريكاتوراً لقوتنا الحقيقية، هذا التشويه يذكرنا بالمجانبة غير المتوقعة بين الكبير والصغير في رحلة جليفر الأولى والثانية في كتاب جوناثان سويفت "رحلات جليفر"، هكذا إذاً، فالإرهابي المهمش هو من أهل ليليبوت من جهة، بينما أصبح الجهد المبذول لإزالة الأنسنة والتصغير هاجسيا لدرجة تعظيم الخطر بطريقة خيالية، فالفلسطيني أصبح (فجأة) من سكان بروبدنغناغ".

إذن، سيواصل الغرب دعمه لجرائم إسرائيل على أسس عرقية وثقافوية تتأسس على البشرة البيضاء المشتركة، كما يثق بتفهم وإسناد العرب من ذوي البشرة السوداء والأقنعة البيضاء، وفي مقدمتهم سلطة المتعاونين الفلسطينيين في الضفة الغربية، أما القيم الحضارية المتعلقة بحقوق الإنسان، والديموقراطية، والسلام، والعدالة كمبادئ كونية فلا تنطبق على الفلسطينيين ولا الثائرين والمقاومين في العالم العربي، ألا تتذكرون كلمات فرانتز فانون الخالدة حول أوروبا الكولينالية إبان الحقبة الاستعمارية والتي أصبحت أشد وطأة وأكثر مراوغة: "دعونا من أوروبا هذه، حيث لا يتعبون من الكلام عن الإنسان بينما هم يقتلونه أينما وجدوه، في زوايا كل شارع من شوارعهم، وفي كل زوايا الكرة الأرضية".
التعليقات (1)
ايمن نزال
الإثنين، 28-07-2014 01:26 م
يمكن فهم المقال في حاله واحده فقط هو ان نقرأ رواية جلفرز ترفلز!!