كتاب عربي 21

ترامب وذكاء وفهلوية ابن السوق

جعفر عباس
1300x600
1300x600
ما إن فاز دونالد ترامب بالرئاسة في الولايات المتحدة، حتى انفتحت صنابير السباب في وجهه من كل القارات، وكانت أكثر الصفات التي أطلقت عليها رواجا هي "الغباء"، ولا يستقيم عقلا أن يفوز غبي بثقة الناخبين، في بلد كثير السكان مثل الولايات  المتحدة، وترامب ليس ذكيا بالمطلق وليس غبيا بالمطلق، فهو يملك نوعا من الذكاء يسميه المصريون "اللحلحة"، والملحلح هو الفهلوي الشاطر، الذي يفهمها وهي طائرة، لأنه مكحل بالشطة ويستحم بماء الطُّرشي، وبصفة عامة فإن اللحلحة/ الفهلوة تكون مجدية في مناح معينة- مثلا البيع والشراء والسمسرة والتعامل مع العوام، ولذلك فإنك لن تسمع بمفكر أو مثقف أو سياسي محترف "ملحلح"، إلا في سياق التقليل من شأنه.

ولو كان دونالد ترامب غبيا بالمطلق، لما فاز في الانتخابات الرئاسية الأميركية، ورغم أنه من الثابت بـ"الأُذن المجردة"، أنه غبي بدرجة مثيرة للإعجاب في أمور السياسة والحكم، فإنه قطعا يتمتع بشطارة وفهلوة ابن السوق، والسوق يعلم الشخص الذي يملك الخميرة اللازمة، مهارات لا تستطيع جامعة هارفارد ومثيلاتها تقديمها حتى للنوابغ من الدارسين، وقد أتقن ترامب فن مخاطبة العوام واليمين المتطرف، الذي يعجبه الخطاب الغوغائي المتشنج.

وهكذا نجح ترامب في استمالة قلوب شريحة من الناخبين بالتهريج وبذل الوعود المجانية، وقول ما يريد الناخب العادي سماعه، وهذا هو نفس منطق "الجمهور عايز كدا"، لتبرير إنتاج أفلام وأغنيات تافهة، ويتجلى ذكاء ترامب المكتسب من حياة الشارع والسوق، في أنه، ورغم ملياراته، أنفق أقل من نصف ما أنفقته منافسته هيلاري كلينتون على حملتها الانتخابية، فقد أنفقت هيلاري نحو 150 مليون دولار على الدعاية لنفسها عبر التلفزيون، ومع هذا كان حضور ترامب على الشاشات "أكثر" من حضورها بحساب مدة الظهور.

فلأنه غوغائي متمرس، فقد حرص ترامب على إطلاق تغريدتين يوميا عبر منصة التواصل الاجتماعي تويتر، ويحرص على أن  تحوي كل تغريدة كلاما مثيرا للجدل أو غير مقبول سياسيا، وهكذا ورغم أن جميع المؤسسات الصحفية في الولايات المتحدة ظلت تلعن خاش ترامب، منذ أن قدم أوراق ترشيحه رسميا، إلا أنها كانت تتنافس على إعادة بث تلك التغريدات، وتحويلها إلى مادة للجدل الجاد والساخر، وقد قامت بعض مراكز الدراسات الأمريكية بحصر عدد المرات  التي ظهر فيها ترامب على شاشات التلفزة خلال الأشهر الثمانية الأخيرة من الحملة الانتخابية، وبعمليات حسابية بسيطة استنتجت أنه لو دفع ترامب مقابلا ماديا نظير ذلك الظهور لكلفه ذلك 4.2 مليار دولار، وكسبت القنوات الأمريكية التي ظلت تسخر من ترامب أضعاف ذلك المبلغ بارتفاع عدد مشاهديها، ومن ثم ارتفاع عدد الإعلانات التي بثتها، وقد اعترف الرئيس التنفيذي لشبكة سي بي إس الأمريكية، بأنهم ومن حيث السياسة التحريرية للشبكة، كانوا "ضد" ترامب بالطول والعرض، ولكنهم أعطوه مساحات زمنية أطول من منافسته هيلاري كلينتون، لأن الأمر يتعلق بالعائد المالي المجزي.

ولأن السياسي الشعبوي غير معني بمحتوى ما يصرح به، ولا يهمه أن تُقابل مواقفه بالقبول والرفض من الناس "الفهمانين"، لأن الأولوية عنده هي البقاء في دائرة الضوء، فإنه وإلى يومنا هذا، أي بعد فوزه بكرسي الرئاسة ما زال يرسل التغريدات: تابعوني في حوار مع قناة كذا وكذا.. سنطرد 3 ملايين من المهاجرين كدفعة أولى لضمان مجتمع خال من الجريمة.. لا مكان في بلادنا لمزيد من المسلمين.

وهكذا ارتفع عدد متابعي ترامب في تويتر، من سبعة ملايين في يوليو المنصرم إلى أكثر من 17 مليونا اليوم، وإذا كان ممكنا إعادة إرسال التغريدة الواحدة إلى أي عدد من الناس، فلك أن تتخيل كم من عشرات الملايين ظلوا يغردون خارج سرب العقول الراشدة مع ترامب

ولتأكيد ما ظللت أردده هنا بأن الفائزين في الانتخابات ليسوا بالضرورة، الأفضل برامجا وأفكارا، لا أجد مثالا ونموذجا أفضل للشخصية الشعبوية الغوغائية من الرئيس الإيراني السابق محمد أحمدي نجاد (2005- 2013)، فمن رئيس لبلدية طهران، خاض انتخابات الرئاسة واعدا الفقراء – كما فعل شبيهه الفنزويلي هوغو شافيز – بنصيب من وافر من ثروة البلاد النفطية، ولكنه وبعد 8 سنوات حافلة بالجدل وقلة العمل ترك اقتصاد البلاد مهلهلا، وعلاقاتها الخارجية في أدنى درجاتها.

وليس أدلّ على أن نجاد لا يصلح زعيما للبلاد بأي درجة، أكثر من أن المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي، استدعاه قبل أقل من شهرين وطلب منه عدم خوض الانتخابات الرئاسية المقبلة، وكان نجاد قد أعلن اعتزامه فعل ذلك، ولم يفز الرئيس الإيراني الحالي حسن روحاني بالمنصب في يونيو 2013، إلا بعد أن اقتنع الناخبون الإيرانيون بأن نجاد ومن لفّ لفه يخطرفون ويهرفون بكلام كاد أن يوصل البلاد إلى أسفل سافلين، وحرص من ثم على مخاطبة الناخبين في أمر ضرورة تسوية ملف بلاده النووي والاهتمام الجدي بالقضايا الاقتصادية، ورغم أن رسوخ الشعبوية والتعبوية في العمل السياسي الإيراني ما زال يشل من حركة روحاني كرئيس للبلاد، إلا أنه حقق لبلاده من المكاسب ما لم يحققه رئيس قبله، منذ سقوط نظام الشاه في عام 1979.

ولسوء حظ الأمريكان، ليس عندهم خامنئي يقول لهذا "على بركة الله" ولذاك "الزم حدودك"، ولكنني واثق من أن ترامب سيكون أقوى عدو لنفسه، وأنه سيختفي من الساحة غير مأسوف عليه بعد أربعة أعوام.
1
التعليقات (1)
مجدوب عريبى
الأحد، 20-11-2016 11:06 ص
لا تنس يا اخ عباس ان احمدى نجاد مهندس قضى على عدك ازمات فى يلاده رغم الحصار الدولى و ظلم الجيران و ما نجاح روحانى الا من تشدد نجاد , وما اختياره ضمن لجنة تشخيص النظام الا لحنكته .هل تذكر استضافته من طرف جامعة امريكية عريقة وايجاباته عن اسئلة اساتذها و طلبتها , هل بمقدور نتاوعنا فعل ذالك .